الخميس، ١ نوفمبر ٢٠٠٧

مقدمــــــــة


مقدمـــــــة

اسمه الحقيقى كما تنطق به شهادة الميلاد محمود أحمد حسن عمر المولود فى 4 ديسمبر 1908 بقرية الأكراد مركز أبنوب بمديرية أسيوط .

كان والده وأعمامه وأجداده عمدا للقرية التى ولد فيها ، واشتهر باسم محمود البدوى ، ولقب البدوى أسبغه عليهم أهل القرية لما لمسوه من والده ووالدته من كرم حاتمى .

قام بتغيير اسمه إلى الاسم الذى اشتهرت به أسرته فى جميع الأوراق والمستندات الرسمية عام 1957 وقبل سفره مع البعثة الثقافية التى ضمت خيرة رجال التعليم فى مصر إلى الهند والصين واليابان فى ديسمبر سنة 1957 .

والدته إبنة عمدة إتليدم بمحافظة المنيا ، وشقيقها (خاله) الأديب إسماعيل عبد المنعم التونى الذى أخرج عدة كتب قصصية فى بداية القرن العشرين كان لها دوى وكان لبعضها فضل السبق فى مضمارها ، فقد لخص شكسبير وكان أول من فعل فى كتاب سماه على مسرح التمثيل ولخص موليير والف قصصا مصرية منها على سفح الجبل وعقد اللآلئ ، وابن عم والدته الأديب محمد شوكت التونى المحامى الذى أخرج عددًا كبيرا من القصص المصرية منها كتاب سماه « فى ظلال الدموع 1929» و« جهاد الأمم فى سبيل الدستور 1932» و«المحاماة فن رفيع 1958» و« محمد فى طفولته وصباه 1960» و« محمد محرر العبيد » وروايات مسرحية أخرى ، وله أقارب آخرون من ناحية الأم ، كل ميلهم منصب على الأدب القصصى .

كانت أمه ككل الأمهات فى ذلك العهد تتفاءل برؤية مولد الهلال .. وفى أول أيام الشهر الهجرى كانت تصعد به إلى سطح المنزل الواسع (بيت الوسية)* وترنو إلى الهلال وهى تقرأ بعض سور القرآن واضعة يدها على وجهه مقبلة جبينه .. داعية الله أن يقيه شرور الحياة .

ماتت والدته وهو فى السابعة من عمره ، ولأول مرة فى حياته يرى الموت يدخل البيت ، ومنظر النساء الباكيات حوله والذى يصدر عن عواطف صادقة .. حفر مظاهره الحزينة فى أعماقه .. وظلت الغمامة متأصلة فى نفسه وهو لا يدرى ، وهى التى جعلته يبغض الجنازات بغضا شديدا وحتى الأفراح.. كره كل التجمعات ، ومن موتها بدأت القتامة وهى التى جعلته يتجه بحواسه باستمرار إلى الناس المضطهدين المعذبين فى الحياة والذين يعانون، اتجه إلى ذلك بالفطرة .

التحق بالكتاب الملحق بمسجد الخطباء بالقرية ، وفيه تعلم القراءة والكتابة وحفظ بعض آيات القرآن الكريم ، ثم التحق بمدرسة أسيوط الابتدائية ، ونزح إلى القاهرة والتحق بالمدرسة السعيدية الثانوية بالجيزة واختار لسكناه البنسيونات واللوكاندات واستقر أخيرا للإقامة بالغرف المفروشة التى كانت موجودة بكثرة فى حى عابدين وحى قصر النيل والتى كانت تتنازل عنها الأسر الأجنبية لتستعين بإيجارها على ظروف الحياة .

عرف طريقه إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق ليتزود بالمعرفة فقرأ الأدب القديم والحديث ، ونوع وسائل الاطلاع ، ساعده على ذلك إجادته للغتين الإنجليزية والفرنسية فقرأ فى أشهر الروايات ولأكبر المؤلفين ، وكان يقرأ كل كتاب يقع تحت يده حتى ولو جاء من مخزن الدار بطريق الخطأ تمشيا مع الحكمة التى كانت مسطره على جدران الدار بالخط الفارسى "كل كتاب تقرأ تستفد" كما تعلم "وخير جليس فى الزمان كتاب" .

تعلم البدوى الموسيقى بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية وبعد الدراسة التمهيدية الطويلة ، إختار الكمنجة كآلة ، و"كان هذا كما يقول من سوء اختياره لأن دراستها صعبة" وكان يستعد لإمتحان البكالوريا بكل جهوده ، فأهمل الموسيقى وانقطع عن المعهد .

التحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية إيان عمادة الدكتور طه حسين لها ، وقام بتأجير أول مسكن مستقل له بشارع الأمير بشير بالحلمية الجديدة وكان يقيم بالدار إقامة شبه دائمة ويجد لذته الكبرى فى القراءة والاطلاع فاستغرقت كل وقته وكان يشعر بالغبطة والسرور والرضى النفسى كلما قرأ شيئا جديدًا .

حينما تغلق دار الكتب أبوابها يمر فى طريقه إلى البيت على مجلة ومطبعة الرسول ، فيرى صديقه محمد على غريب (تعرف عليه فى مكتبة أدبية بمدينة أسيوط يمت له صاحبها بصلة قرابة وأصبح منذ عام 1935 صاحب مجلات صوت الإسلام وغريب وابن مصر) وصاحب المجلة والمطبعة الأستاذ محمود رمزى نظيم فى عمل متصل فيجلس يقرأ أو يكتب وهو مفتون بحروف الطباعة وما تخرجه على الورق من ضروب الكلام .

كتب محمود البدوى مقالة عن الموسيقى ونشرت على عامود فى مجلة الرسول سنة 1930 ، وكتب مقالة أخرى عن الموسيقى والغناء وخجل أن يقدمها لأحد منهما وتركها على المكتب فى المجلة وانصرف ، ونشرت المقالة فى العدد التالى وتلقى هدية من أمير الشعراء أحمد شوقى ــ مسرحيات "مجنون ليلى" و"مصرع كليوباترا" لأنه ذكر فى المقال موسيقيا شابا من طلبة المعهد .

أهمل البدوى دراسته بالجامعة وكان لا يذهب إليها إلا قليلا ثم انقطع كلية عنها .

لم يرغب فى أن يكون عالة على والده فى القرية ، فيطعمه ويكسيه ويصرف عليه بعد أن شب وأصبح رجلاً ، ولم يكن من السهل عليه أن يتبطل ويعتمد فى معيشته على ما يرسله له والده من نقود ، وقرر أن يفعل شيئا وأن يخطو خطوة عملية ، فإتجه إلى الوظيفة كغيره من الشبان وترك الدراسة بالجامعة ، ولم يأسف على ذلك قط .

التحق بالعمل بقلم حسابات الحكومة بوزارة المالية فى 12/3/1932 بمرتب سبعة جنيهات ونصف ، وعمل بمصلحة الموانى والمنائر بمدينة السويس.

صدرت مجلة الرسالة فى 15 يناير 1933 وكان البدوى يقرأ الأدب الروسى مترجما إلى اللغة الإنجليزية بقلم الكاتبة الإنجليزية كونستانس جارنيت، كان يقرأ قصة الجورب الوردى لتشيكوف وترجمها وأرسلها إلى أستاذه الزيات بمقر المجلة بشارع حسن الأكبر فى حى عابدين ، ونشرت بالعدد العشرين فى 1/12/1933 وشجعه ذلك على أن يترجم غيرها وغيرها وهو ما يزال فى الرابعة والعشرين من عمره وهى سن صغيرة نسبيا لأولئك الذين كانت تتاح لهم فرصة الكتابة والنشر فى مجلة الرسالة التى كان يعتبر النشر فيها فى ذلك الوقت بمثابة شهادة ميلاد أديب متميز .

كان البدوى وهو فى مدينة السويس يرى المراكب تحمل خليطا غير متجانس من البشر ذاهبة إلى أوربا ، فولدت عنده الرغبة الشديدة فى أن يركبها ويجوب الآفاق .

عاد من السويس فى عام 1934 للعمل بمقر الوزارة بميدان اللاظوغلى وذهنه مشغول بالسفر إلى أوربا ، وكثرت الإعلانات فى الصحف والمجلات المصرية والأجنبية تشجع القراء على السفر إلى البلاد الأوربية وبجنيهات قليلة، وكان البدوى فى وفرة شبابه وفتوته وعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين ومعه من المال ما يكفيه للطواف حول العالم ــ كما يقول سنة كاملة ــ فالكساد والبطالة يعمان العالم والأسعار رخيصة فى كل مكان .

سافر البدوى على متن باخرة رومانية أقلعت من ميناء الإسكندرية إلى اليونان ثم تركيا وإلى رومانيا والمجر عبر نهر الدانوب فى 3 أغسطس 1934 وعلى الظهر "الدك" بسبعة جنيهات مصرية ذهابا وإيابا ، ولكنه لم ينم على الظهر واستأجر قمرة بحار فى السفينة بجنيهين طوال الرحلة ، وكان ينزل إلى القاع ويختلط بالبحارة والوقادين وهم يجرفون الفحم ويغذون النار ، كانت المراكب وقتها تدار بالفحم ، ويقصون عليه حياتهم فى البحار .

عاد من هذه الرحلة متفتح المشاعر للكتابة ، فكتب رواية الرحيل (وهى قصة شاب سافر إلى أوربا الشرقية على ظهر مركب ويحكى فيها مشاعره وأحاسيسه طوال الرحلة وانطباعه عن البلاد التى زارها) وطبعها على حسابه بالمطبعة الرحمانية بالخرنفش عام 1935 على ورق رومان أغلى أنواع الورق ولم يتجاوز طبع القصة الجنيهات العشر وبعد هذا أخذ ذهنه يفكر ويشغل بتأليف القصص وانقطع عن الترجمة .

بدأ الأستاذ الزيات يعرفه كمؤلف وينشر له قصصه فى مجلته التى كان يصدرها وحده ، وأول قصة نشرت له فى المجلة باسم "الأعمى" ونشرت فى عددين 156 و157 بتاريخ 29/6 و6/7/1936 وقد تعلم البدوى من أستاذه الزيات أشياء كثيرة لعل أهمها الصبر والجلد فى العمل .

وبعد النشر فى مجلة الرسالة بدأ البدوى ينشر فى مجلة العصور ومعظم الصحف والمجلات المصرية تقريبا ، ولم يتوقف عن النشر ولم يشعر باليأس إطلاقا ، وآخر قصة كتبها ونشرت له بصحيفة مايو باسم "السماء لا تغفل أبدًا" بالعدد 602 فى 4/3/1985 وعمره ستة وسبعون عاما .

هو الكاتب المصرى الوحيد ــ كما قال عنه النقاد والأدباء ــ الذى لم يكتب غير القصة القصيرة ، وكان بإمكانه أن يجرب الكتابة فى فنون أدبية أخرى قد تدر عليه ربحا طائلا وقد تسهم فى تسليط الأضواء عليه وفى شهرته وفى ذيوع صيته ، لكنه آثر الفن والصمت وحبذ التفرغ للإبداع وارتضى العزلة موئلا ، فلم يسع وراء الأحاديث الصحفية أو الإذاعية أو التليفزيونية كى تنشر صورة وأقواله وأخباره .

طاف البدوى على كثير من بلاد العالم الخارجى فى رحلات ثقافية وغير ثقافية ولكنه لم يكتب إلا عن تلك التى استطاعت أن تحدث فى داخله هزة عميقة واستطاع أهلها أن يؤثروا فى عقله ووجدانه ، فصور بعض قصصه فى اليونان وتركيا ورومانيا والمجر والهند والصين وهونج كونج واليابان وسوريا والمغرب .

ومن الأشياء التى لم يحد عنها فى حياته ، أنه لم يسع لتقديم قصصه لغير أديب ، ولم يقدم قصصه إلا لمن يطلب منه ولعل هذا سببه أنه صاحب حياء شديد منذ صغره ولم يكن جسمه ولا روحه يتحملان صدمة أى رد فعل فيه رفض من أى إنسان .

كانت رحلته الثقافية الأولى فى ديسمبر 1957 إلى الهند والصين واليابان وقد ضمت خيرة رجال التعليم فى مصر ، وألقى عدة محاضرات على طلبة جامعة بكين عن « القصة فى الأدب المصرى » و« الأدب المصرى » و«الأدب والصحافة بعد الثورة » ونشرت الصحف الصينية مقتطفات منها وأجزاء منها بصحيفة الشعب المصرية فى 11/12/1957 .

كانت فلسفته فى الحياة أن يغرس وردة مكان كل شوكة .

والحكمة التى آمن بها من خلال رحلته فى الحياة .. أن كل شىء باطل ولا يتبقى فى الحياة إلا المحبة والخير والجمال .

وكانت أحلامه .. أن يسود السلام البشرية .. وأن يتحرر العالم من الفقر والجوع والاضطهاد وذل العبودية ، وأن يتحقق للإنسان حريته ككائن بشرى خلقه الله حرًا كريما ( وأن تصل أمتى إلى غايتها من الرقى والحضارة والخير لبنيها والبشرية جمعاء ) .

وكانت أحلامه كما سطرها فى مقدمة مجموعته القصصية عذارى الليل (العذراء والليل) (كتب للجميع العدد 99 فبراير 1956) .. "وأمنيتى ونحن نعيش فى قلب الحضارة ، ونسير فى ركابها .. أن تتطور بنا الحياة فى المستقبل.. وأن نطبع من الكتاب الواحد مليون نسخة .. وأمنيتى فى هذه الساعة أن يصل هذا الكتاب إلى أيدى الناس الذين أحببتهم وصورت حياتهم فى القرية والمدينة .. فإن هذا من أعظم المباهج للفنان .."

وكان يقول .. " لا أتصور أن كاتبا ينقب فى حياتى بعد موتى .. وحتى إن حاول أحد ذلك .. لن يجد فى بيتى ولا فى أهل بيتى ما يعينه على فهم أى شىء " وهذا ما دفعنى بمشاركة زوجتى إبنة الأديب الراحل (إلى تجميع جميع المقالات التى كتبها سواء فى الصحف والمجلات أو بخط يده وكذلك جميع ما كتب عنه وتلقى الضوء على حياته الخاصة والأدبية ليستطيع الأدباء والنقاد تفهم أصل الصورة المنعكسة فى مرايا قصصه وكتاباته) .


ليست هناك تعليقات: