الخميس، ١ نوفمبر ٢٠٠٧



محمود البدوى
و
القصة القصيرة




على عبد اللطيف
المحامى

الناشر
مكتبة مصــر
3 شارع كامل صدقى ــ الفجالة
ت : 5908920



مقدمــــــــة


مقدمـــــــة

اسمه الحقيقى كما تنطق به شهادة الميلاد محمود أحمد حسن عمر المولود فى 4 ديسمبر 1908 بقرية الأكراد مركز أبنوب بمديرية أسيوط .

كان والده وأعمامه وأجداده عمدا للقرية التى ولد فيها ، واشتهر باسم محمود البدوى ، ولقب البدوى أسبغه عليهم أهل القرية لما لمسوه من والده ووالدته من كرم حاتمى .

قام بتغيير اسمه إلى الاسم الذى اشتهرت به أسرته فى جميع الأوراق والمستندات الرسمية عام 1957 وقبل سفره مع البعثة الثقافية التى ضمت خيرة رجال التعليم فى مصر إلى الهند والصين واليابان فى ديسمبر سنة 1957 .

والدته إبنة عمدة إتليدم بمحافظة المنيا ، وشقيقها (خاله) الأديب إسماعيل عبد المنعم التونى الذى أخرج عدة كتب قصصية فى بداية القرن العشرين كان لها دوى وكان لبعضها فضل السبق فى مضمارها ، فقد لخص شكسبير وكان أول من فعل فى كتاب سماه على مسرح التمثيل ولخص موليير والف قصصا مصرية منها على سفح الجبل وعقد اللآلئ ، وابن عم والدته الأديب محمد شوكت التونى المحامى الذى أخرج عددًا كبيرا من القصص المصرية منها كتاب سماه « فى ظلال الدموع 1929» و« جهاد الأمم فى سبيل الدستور 1932» و«المحاماة فن رفيع 1958» و« محمد فى طفولته وصباه 1960» و« محمد محرر العبيد » وروايات مسرحية أخرى ، وله أقارب آخرون من ناحية الأم ، كل ميلهم منصب على الأدب القصصى .

كانت أمه ككل الأمهات فى ذلك العهد تتفاءل برؤية مولد الهلال .. وفى أول أيام الشهر الهجرى كانت تصعد به إلى سطح المنزل الواسع (بيت الوسية)* وترنو إلى الهلال وهى تقرأ بعض سور القرآن واضعة يدها على وجهه مقبلة جبينه .. داعية الله أن يقيه شرور الحياة .

ماتت والدته وهو فى السابعة من عمره ، ولأول مرة فى حياته يرى الموت يدخل البيت ، ومنظر النساء الباكيات حوله والذى يصدر عن عواطف صادقة .. حفر مظاهره الحزينة فى أعماقه .. وظلت الغمامة متأصلة فى نفسه وهو لا يدرى ، وهى التى جعلته يبغض الجنازات بغضا شديدا وحتى الأفراح.. كره كل التجمعات ، ومن موتها بدأت القتامة وهى التى جعلته يتجه بحواسه باستمرار إلى الناس المضطهدين المعذبين فى الحياة والذين يعانون، اتجه إلى ذلك بالفطرة .

التحق بالكتاب الملحق بمسجد الخطباء بالقرية ، وفيه تعلم القراءة والكتابة وحفظ بعض آيات القرآن الكريم ، ثم التحق بمدرسة أسيوط الابتدائية ، ونزح إلى القاهرة والتحق بالمدرسة السعيدية الثانوية بالجيزة واختار لسكناه البنسيونات واللوكاندات واستقر أخيرا للإقامة بالغرف المفروشة التى كانت موجودة بكثرة فى حى عابدين وحى قصر النيل والتى كانت تتنازل عنها الأسر الأجنبية لتستعين بإيجارها على ظروف الحياة .

عرف طريقه إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق ليتزود بالمعرفة فقرأ الأدب القديم والحديث ، ونوع وسائل الاطلاع ، ساعده على ذلك إجادته للغتين الإنجليزية والفرنسية فقرأ فى أشهر الروايات ولأكبر المؤلفين ، وكان يقرأ كل كتاب يقع تحت يده حتى ولو جاء من مخزن الدار بطريق الخطأ تمشيا مع الحكمة التى كانت مسطره على جدران الدار بالخط الفارسى "كل كتاب تقرأ تستفد" كما تعلم "وخير جليس فى الزمان كتاب" .

تعلم البدوى الموسيقى بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية وبعد الدراسة التمهيدية الطويلة ، إختار الكمنجة كآلة ، و"كان هذا كما يقول من سوء اختياره لأن دراستها صعبة" وكان يستعد لإمتحان البكالوريا بكل جهوده ، فأهمل الموسيقى وانقطع عن المعهد .

التحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية إيان عمادة الدكتور طه حسين لها ، وقام بتأجير أول مسكن مستقل له بشارع الأمير بشير بالحلمية الجديدة وكان يقيم بالدار إقامة شبه دائمة ويجد لذته الكبرى فى القراءة والاطلاع فاستغرقت كل وقته وكان يشعر بالغبطة والسرور والرضى النفسى كلما قرأ شيئا جديدًا .

حينما تغلق دار الكتب أبوابها يمر فى طريقه إلى البيت على مجلة ومطبعة الرسول ، فيرى صديقه محمد على غريب (تعرف عليه فى مكتبة أدبية بمدينة أسيوط يمت له صاحبها بصلة قرابة وأصبح منذ عام 1935 صاحب مجلات صوت الإسلام وغريب وابن مصر) وصاحب المجلة والمطبعة الأستاذ محمود رمزى نظيم فى عمل متصل فيجلس يقرأ أو يكتب وهو مفتون بحروف الطباعة وما تخرجه على الورق من ضروب الكلام .

كتب محمود البدوى مقالة عن الموسيقى ونشرت على عامود فى مجلة الرسول سنة 1930 ، وكتب مقالة أخرى عن الموسيقى والغناء وخجل أن يقدمها لأحد منهما وتركها على المكتب فى المجلة وانصرف ، ونشرت المقالة فى العدد التالى وتلقى هدية من أمير الشعراء أحمد شوقى ــ مسرحيات "مجنون ليلى" و"مصرع كليوباترا" لأنه ذكر فى المقال موسيقيا شابا من طلبة المعهد .

أهمل البدوى دراسته بالجامعة وكان لا يذهب إليها إلا قليلا ثم انقطع كلية عنها .

لم يرغب فى أن يكون عالة على والده فى القرية ، فيطعمه ويكسيه ويصرف عليه بعد أن شب وأصبح رجلاً ، ولم يكن من السهل عليه أن يتبطل ويعتمد فى معيشته على ما يرسله له والده من نقود ، وقرر أن يفعل شيئا وأن يخطو خطوة عملية ، فإتجه إلى الوظيفة كغيره من الشبان وترك الدراسة بالجامعة ، ولم يأسف على ذلك قط .

التحق بالعمل بقلم حسابات الحكومة بوزارة المالية فى 12/3/1932 بمرتب سبعة جنيهات ونصف ، وعمل بمصلحة الموانى والمنائر بمدينة السويس.

صدرت مجلة الرسالة فى 15 يناير 1933 وكان البدوى يقرأ الأدب الروسى مترجما إلى اللغة الإنجليزية بقلم الكاتبة الإنجليزية كونستانس جارنيت، كان يقرأ قصة الجورب الوردى لتشيكوف وترجمها وأرسلها إلى أستاذه الزيات بمقر المجلة بشارع حسن الأكبر فى حى عابدين ، ونشرت بالعدد العشرين فى 1/12/1933 وشجعه ذلك على أن يترجم غيرها وغيرها وهو ما يزال فى الرابعة والعشرين من عمره وهى سن صغيرة نسبيا لأولئك الذين كانت تتاح لهم فرصة الكتابة والنشر فى مجلة الرسالة التى كان يعتبر النشر فيها فى ذلك الوقت بمثابة شهادة ميلاد أديب متميز .

كان البدوى وهو فى مدينة السويس يرى المراكب تحمل خليطا غير متجانس من البشر ذاهبة إلى أوربا ، فولدت عنده الرغبة الشديدة فى أن يركبها ويجوب الآفاق .

عاد من السويس فى عام 1934 للعمل بمقر الوزارة بميدان اللاظوغلى وذهنه مشغول بالسفر إلى أوربا ، وكثرت الإعلانات فى الصحف والمجلات المصرية والأجنبية تشجع القراء على السفر إلى البلاد الأوربية وبجنيهات قليلة، وكان البدوى فى وفرة شبابه وفتوته وعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين ومعه من المال ما يكفيه للطواف حول العالم ــ كما يقول سنة كاملة ــ فالكساد والبطالة يعمان العالم والأسعار رخيصة فى كل مكان .

سافر البدوى على متن باخرة رومانية أقلعت من ميناء الإسكندرية إلى اليونان ثم تركيا وإلى رومانيا والمجر عبر نهر الدانوب فى 3 أغسطس 1934 وعلى الظهر "الدك" بسبعة جنيهات مصرية ذهابا وإيابا ، ولكنه لم ينم على الظهر واستأجر قمرة بحار فى السفينة بجنيهين طوال الرحلة ، وكان ينزل إلى القاع ويختلط بالبحارة والوقادين وهم يجرفون الفحم ويغذون النار ، كانت المراكب وقتها تدار بالفحم ، ويقصون عليه حياتهم فى البحار .

عاد من هذه الرحلة متفتح المشاعر للكتابة ، فكتب رواية الرحيل (وهى قصة شاب سافر إلى أوربا الشرقية على ظهر مركب ويحكى فيها مشاعره وأحاسيسه طوال الرحلة وانطباعه عن البلاد التى زارها) وطبعها على حسابه بالمطبعة الرحمانية بالخرنفش عام 1935 على ورق رومان أغلى أنواع الورق ولم يتجاوز طبع القصة الجنيهات العشر وبعد هذا أخذ ذهنه يفكر ويشغل بتأليف القصص وانقطع عن الترجمة .

بدأ الأستاذ الزيات يعرفه كمؤلف وينشر له قصصه فى مجلته التى كان يصدرها وحده ، وأول قصة نشرت له فى المجلة باسم "الأعمى" ونشرت فى عددين 156 و157 بتاريخ 29/6 و6/7/1936 وقد تعلم البدوى من أستاذه الزيات أشياء كثيرة لعل أهمها الصبر والجلد فى العمل .

وبعد النشر فى مجلة الرسالة بدأ البدوى ينشر فى مجلة العصور ومعظم الصحف والمجلات المصرية تقريبا ، ولم يتوقف عن النشر ولم يشعر باليأس إطلاقا ، وآخر قصة كتبها ونشرت له بصحيفة مايو باسم "السماء لا تغفل أبدًا" بالعدد 602 فى 4/3/1985 وعمره ستة وسبعون عاما .

هو الكاتب المصرى الوحيد ــ كما قال عنه النقاد والأدباء ــ الذى لم يكتب غير القصة القصيرة ، وكان بإمكانه أن يجرب الكتابة فى فنون أدبية أخرى قد تدر عليه ربحا طائلا وقد تسهم فى تسليط الأضواء عليه وفى شهرته وفى ذيوع صيته ، لكنه آثر الفن والصمت وحبذ التفرغ للإبداع وارتضى العزلة موئلا ، فلم يسع وراء الأحاديث الصحفية أو الإذاعية أو التليفزيونية كى تنشر صورة وأقواله وأخباره .

طاف البدوى على كثير من بلاد العالم الخارجى فى رحلات ثقافية وغير ثقافية ولكنه لم يكتب إلا عن تلك التى استطاعت أن تحدث فى داخله هزة عميقة واستطاع أهلها أن يؤثروا فى عقله ووجدانه ، فصور بعض قصصه فى اليونان وتركيا ورومانيا والمجر والهند والصين وهونج كونج واليابان وسوريا والمغرب .

ومن الأشياء التى لم يحد عنها فى حياته ، أنه لم يسع لتقديم قصصه لغير أديب ، ولم يقدم قصصه إلا لمن يطلب منه ولعل هذا سببه أنه صاحب حياء شديد منذ صغره ولم يكن جسمه ولا روحه يتحملان صدمة أى رد فعل فيه رفض من أى إنسان .

كانت رحلته الثقافية الأولى فى ديسمبر 1957 إلى الهند والصين واليابان وقد ضمت خيرة رجال التعليم فى مصر ، وألقى عدة محاضرات على طلبة جامعة بكين عن « القصة فى الأدب المصرى » و« الأدب المصرى » و«الأدب والصحافة بعد الثورة » ونشرت الصحف الصينية مقتطفات منها وأجزاء منها بصحيفة الشعب المصرية فى 11/12/1957 .

كانت فلسفته فى الحياة أن يغرس وردة مكان كل شوكة .

والحكمة التى آمن بها من خلال رحلته فى الحياة .. أن كل شىء باطل ولا يتبقى فى الحياة إلا المحبة والخير والجمال .

وكانت أحلامه .. أن يسود السلام البشرية .. وأن يتحرر العالم من الفقر والجوع والاضطهاد وذل العبودية ، وأن يتحقق للإنسان حريته ككائن بشرى خلقه الله حرًا كريما ( وأن تصل أمتى إلى غايتها من الرقى والحضارة والخير لبنيها والبشرية جمعاء ) .

وكانت أحلامه كما سطرها فى مقدمة مجموعته القصصية عذارى الليل (العذراء والليل) (كتب للجميع العدد 99 فبراير 1956) .. "وأمنيتى ونحن نعيش فى قلب الحضارة ، ونسير فى ركابها .. أن تتطور بنا الحياة فى المستقبل.. وأن نطبع من الكتاب الواحد مليون نسخة .. وأمنيتى فى هذه الساعة أن يصل هذا الكتاب إلى أيدى الناس الذين أحببتهم وصورت حياتهم فى القرية والمدينة .. فإن هذا من أعظم المباهج للفنان .."

وكان يقول .. " لا أتصور أن كاتبا ينقب فى حياتى بعد موتى .. وحتى إن حاول أحد ذلك .. لن يجد فى بيتى ولا فى أهل بيتى ما يعينه على فهم أى شىء " وهذا ما دفعنى بمشاركة زوجتى إبنة الأديب الراحل (إلى تجميع جميع المقالات التى كتبها سواء فى الصحف والمجلات أو بخط يده وكذلك جميع ما كتب عنه وتلقى الضوء على حياته الخاصة والأدبية ليستطيع الأدباء والنقاد تفهم أصل الصورة المنعكسة فى مرايا قصصه وكتاباته) .


محمود البدوى فى سطور

محمود البدوى فى سطور :

ولد فى قرية الأكراد مركز أبنوب بمديرية (محافظة) أسيوط فى 4 ديسمبر 1908 .
قضى طفولته كلها فى الريف حتى شهادة الابتدائية حصل عليها من مدرسة أسيوط الابتدائية ، ولما جاء إلى القاهرة لمواصلة التعليم الثانوى بالمدرسة السعيدية كان حريصا على قضاء كل أجازاته بين الفلاحين .

التحق بكلية الآداب إبان عمادة الدكتور طه حسين وترك الدراسة والتحق بالعمل فى وزارة المالية عام 1932 .

أطلق عليه بعض النقاد والدارسين لقب تشيكوف العرب ولقب راهب القصة القصيرة ولقب فارس القصة القصيرة ولقب رائد القصة القصيرة .

كتب ما يزيد على 375 قصة نشرت جميعها بالصحف والمجلات المصرية والعربية بالإضافة إلى المجلات المتخصصة كالرسالة والقصة والثقافة والأديب والهلال .

اصدرت له دور النشر 25 كتابا .

له كتاب واحد فى أدب الرحلات عن رحلته إلى الصين واليابان وهونج كونج .

حصل على ميدالية الإنتاج الأدبى والفنى من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب لمساهمته فى المناسبات الوطنية عام 1956 عن قصة «الماس» المنشورة بصحيفة الشعب ــ العدد 171 فى 13/11/1956.

حصل على جائزة الجدارة فى الفنون عام 1978 .

منح جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1986 .

منح اسمه بعد وفاته على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1988 .

رحل فى 12/2/1986 .

قامت الأسرة فى شهر سبتمبر من عام 1999 بإهداء مكتبته الخاصة إلى الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية . وتضم مجموعات قيمة من الكتب الأدبية ودواوين الشعر والروايات العربية والأجنبية لتكون تحت نظر الباحثين والدارسين فى فنون الأدب (وفاء منها لما قدمته الدار فى بداية حياة البدوى الأدبية) ووضعت فى قاعة المكتبات المهداة .

* * *

قالوا عن محمود البدوى


قالوا عن محمود البدوى :

" يمتاز عن جميع الأدباء بأنه وهب نفسه لفن واحد هو القصة وجعل منه وسيلته فى التعبير عن الناس والحياة ، وكان ذلك يعنى أنه على ثقة من هذا الفن ، لم يعتمد إلا على موهبته وبالعمل .. وللأسف فإنه نظير كل ما أعطى لم يجن سوى الجفاء .. إذ يعتبر أقل الأدباء حظا من النقد والتقدير "

نجيب محفوظ
ص . المساء 16/2/1986

* * *

" رائدى فى كتابة القصة القصيرة وتأثيره علىَّ فى مطلع حياتى الأدبية هو الأستاذ الكبير محمود البدوى الذى يعتبر بحق أول رائد للقصة القصيرة " .

" من أولى خصائص القصاص الرائد محمود البدوى هى كبرياؤه الشديد وعزوفه عن الوقوف بأبواب هؤلاء المسئولين ليطلب منهم شيئا " .

عبد الرحمن الشرقاوى
برنامج أتوجراف .. ص . الجمهورية 10/8/1977

.. إلى محمود البدوى .. الكاتب الجسور الذى علمنى منذ نشر مجموعته "رجل" فى سنة 1935 كيف أحب حياة الناس البسطاء وكيف أهتز لما فيها من روعة وعمق وشعر .
عبد الرحمن الشرقاوى
مقدمة كتاب أحلام صغيرة ــ العدد 100
سلسلة كتب للجميع 1956

* * *

" قال عنه أستاذى " محمود تيمور" محمود البدوى فى معظم إنتاجه يرتقى إلى القمة التى تربع عليها تشيكوف "

رستم كيلانى
ص . الأهرام 6/2/1998

* * *

" كان كاتبا كبيرا بلا مجتمع ، عاش العزلة وهواها وصادق أوراقه وأقلامه .. وابتعد عن الأضواء ، وابتعدت عنه الأضواء " .

موسى صبرى
م . آخر ساعة 26/2/1986

* * *

" لم أسمعه فى حياتى يسىء إلى أحد وإنما كان يعيش كالراهب فى محراب الفن" .

ثروت أباظة
ص. المساء 16/2/1986

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

" لم أر مؤلفا يخلص لفنه بمثل هذه المثابرة والإيمان مع التواضع الشديد ، وعزوفه التام عن الإشادة بإسمه أو التعريف بفضله "

يحيى حقى
ص . الأخبار 19/2/1986

* * *

" إذا أردنا أن نعدد أفضل خمسة كتاب قصة قصيرة فى أدبنا الحديث فلا شك أن محمود البدوى سيكون واحدًا منهم"

فؤاد دوارة
كتاب فى القصة القصيرة 1966

* * *

" لم ينضو تحت لواء حزب ولم ينتم إلى شلة ، وفى الثلاثينات كانت كتاباته تعتبر كتابات تقدمية ، ولم أصادف كاتبا من كتاب القصة الكبار وأنا أعد لرسالة الدكتوراه إلا وأشار علىّ بأنه تأثر بمحمود البدوى طويلا .. طويلاً "

د. سيد حامد النساج
ص . الأخبار 19/2/1986

* * *

" الأديب الكبير محمود البدوى يشكل فى تاريخ الأدب العربى الحديث مدرسة مميزة فى كتابة القصة .. كما يعترف له بالأستاذية أديب كبير آخر هو نجيب محفوظ"
علاء الدين وحيد
م . أسرتى 31 يناير 1981

* * *

" حرصت على علاقة الأستاذ والتلميذ بينه وبينى ، أفيد من قراءة إبداعاته، وأفيد ــ فى الوقت نفسه ــ من الأبوة الحانية التى كانت سمة تعامله مع مبدعى الأجيال التالية " .
" لم يتخل الرجل عن إيمانه بفنه ، وبنفسه ، وظل يواصل الإبداع فى صمت ، دون أن تشغله تلك الجوائز والأوسمة والمناصب الرفيعة التى حصل عليها من يدينون له بالأستاذية ، أو تقف قدراتهم الفنية على مبعدة من موهبته المتميزة "

محمد جبريل
كتاب آباء الستينات 1995

* * *

" مات محمود البدوى العملاق بدون أن يجرى التليفزيون مقابلة معه .. ربما نحاول أن نكفر عما إقترفناه فى حق محمود البدوى ، ولكن أى محاولة لن تكون فى مستوى الذنب "

عبد العال الحمامصى
ص.الأخبار 19/2/1986

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفصل الأول ـ الإحساس المبكر للأدب


الإحساس المبكر بعملية الأدب

* التعليم الابتدائى .
* دار الكتب المصرية .
* تعلم الموسيقى .
* نظام التعليم الثانوى بالمدرسة السعيدية .
* كلية الآداب بالجامعة المصرية .
* مجلة الرسول .
* الأدب الروسى .
* مؤلفات د.هـ لورنس .
* بداية العهد بأستاذه الزيات .
* ترجمة الأدب الروسى إلى اللغة العربية .

=============

التعليم الإبتدائى


التعليم الابتدائى









تعلم البدوى القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم بكتاب مسجد الخطباء فى القرية التى ولد ونشأ فيها " قرية الأكراد " ثم التحق بمدرسة أسيوط الابتدائية ، وأقام بالمدينة ، وكانت تجربته الأولى التى يعيش فيها بعيدًا عن أسرته ..

يعود فى الأجازات المدرسية إلى القرية ويقضى الليل فى الحقول ووسط الفلاحين وهم يحرسون الأجران ، يجلس معهم ويتندرون ويفيضون بأعذب الأحاديث والسير ، ويوقدون النار فى الدريس لعمل الشاى ويجذبون سمعه بحكاياتهم الشيقة ..

كان رجال الليل بأثوابهم الداكنة ومغطين رؤوسهم وأعناقهم بالملاحف ، مسلحين بأحدث طراز من البنادق يمرون عليهم ويجلسون يشربون الشاى ويقصون عن مغامراتهم فى الليالى السوداء وهم يسطون على العزب والمزارع الغنية لبعض الثراة ويحكون عن حوادثهم مع القرويين الذين يتأخرون فى الحقول والتجار العائدين من الأسواق ..

وفى المدرسة الابتدائية التقى البدوى بالشيخ صالح مدرس اللغة العربية والذى كان فى ذات الوقت يعطيهم حصة الدين ــ وهو كما يراه " مفكر سبق زمانه بزمان " ويعترف بفضله عليه حيث يقول عنه ..

" أول من أدين له ، لأنى أعتقد أن هذا الرجل هو أول من فتح قلبى لقراءة التراث العربى وكانت حصته من أحب الحصص إلى نفوسنا ، مع أنها كانت حصة الدين ، ولأن هذا الرجل كان بطبعه واسع الاطلاع ، فقد أخذ يحدثنا من كتاب السيرة لابن هشام عن الكثير من الوقائع التاريخية ويزيد هو عليها من براعته ومن نفسه المتفتحة وحبب إلينا الاستماع والتلهف إلى ما يأتى من الدروس .. كان يقص علينا السير .. بأسلوب أخاذ فى استفاضة وتطويل .. وكنا ننصت إليه خاشعين لطريقته فى الشرح .. وهو يبسط ذراعيه ويضمها طبقا لمقتضى الحال ، ومنه أخذنا نقرأ ونرجع فى شوق ولهفة إلى كل ما كان يشير إليه من هذه السير " ..

وجد البدوى نفسه يتجه إلى الأدب ينهل ويغترف منه بلا حدود وقد ساعده على ذلك وجود مكتبه فى البيت بعضها من التراث وبعضها من الأدب الحديث .. ويقول "كان من الطبيعى أن هذه القراءة ساعدتنى فى مواضيع الإنشاء التى كنت أكتبها فى المدرسة والخواطر التى كنت أسجلها فى كراستى الخاصة ، ومن الإعجاب الذى كنت ألقاه من جراء هذه الخواطر تكون عندى الإحساس المبكر بعملية الأدب " ..

==================

دار الكتب المصرية

دار الكتب المصرية





محمود البدوى مع أصدقاء بدار الكتب المصرية


بعد أن أتم البدوى تعليمه الابتدائى جاء إلى القاهرة ليكمل تعليمه الثانوى والتحق بالمدرسة السعيدية بالجيزة .. وعرف طريقه إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق ، فكان يقرأ ويطالع كيفما أحب وشاء من كتب السيرة ومن الأدب العربى القديم .

ويقول " وبهذا التوهج والحب للكتاب والأدب إنتقلنا من مرحلة الدراسة الابتدائية .. التى كانت المنبع لحب الكتاب إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق لنتزود بالمعرفة وتتسع الآفاق فى البحث والدراسة "..

" كنت أذهب إلى دار الكتب .. لأنى أجد فى الدار مكانا هادئا للمطالعة والمذاكرة أحسن من البيت ، وكان قد أعد بها مكان جديد مريح سمى " مكتبة الطالب " يختار فيه الطالب الكتاب الذى يرغب فى مطالعته من صفوف الكتب التى حوله فى المكتبة حسب تصنيفها .. ويتناوله بيده دون الحاجة إلى كتابة استمارة وانتظار الكتاب من المخزن ، وفى سبع حالات من عشر يكون رد المخزن ــ لا يعار .. بالخارج .. به تمزيق ..

ورواية ماجدولين هى أول رواية قرأتها فى حياتى .. وأعجبت بعد قراءتها بالمنفلوطى إعجابا شديدا .. فقرأت جميع مؤلفاته .. المؤلف منها والمترجم ، وأنا أزداد إعجابا بالرجل وتعظيما له .

وكانت صورة المنفلوطى فى زيه الشرقى الجميل ووجاهته تتصدر المكتبات والصحف ، كان ملكا متوجا على عرش الأدب .

ثم وقع فى يدى كتاب الأغانى للأصفهانى بكل أجزائه ومن فرط متعتى وانبهارى بمحتوياته وأسلوبه وطريقة حكيه ، إنطلقت التهم كل أجزائه ، ثم أعود لأقرأها مرات أخرى ، وكان هذا الكتاب لا يفارقنى لفترة طويلة ، فقد أدخلنى عالما لا يقتصر على الأسلوب الأدبى وكثرة ما يحتويه من كنوز الشعر والحكمة والطرائف ولكنه يقدم لى أيضا العواطف والمشاعر والغرائز الطبيعية البشرية بكل أحوالها ومادة لا تنفذ من الحكايات والحوادث والوقائع ..

وبعد قراءة هذا الكتاب وجدت فى نفسى القدرة على التعبير القصصى ثم تزايدت العملية إتساعًا وامتدادًا مع التجارب والقراءة واتضاح معالم الاستعداد الذاتى بما يجعل العملية معقدة يصعب تحديد فواصلها ، ولكن لا يمكن أن أنسى أن كتاب الأغانى كان نقطة تحول كبيرة عندى وأنه يفضله ترسخ عندى اليقين بأننى سوف أكون كاتبا قصصيا ذات يوم ..

وقرأت ألف ليلة وليلة بالإنجليزية .. والمترجم مستشرق كبير .. وكنت أقرأ الكتاب بالعربية أولاً ثم أطويه وأبدأ بالنسخة الإنجليزية .. ووجدت نفسى بعد شهور قليلة أستغنى عن النص العربى .

وقرأت الأدب القديم والحديث .. ونوعت وسائل الاطلاع .. وساعدنى على ذلك ذهابى إلى دار الكتب يوميا .. قرأت فى دار الكتب مجلة البيان لعبد الرحمن البرقوقى وكان يكتب فيها محمد السباعى وعباس حافظ والعقاد والمازنى مقالات وترجمات عن أدب الغرب فى كل ألوان الأدب وفنونه .

ثم قرأت مؤلفات الزيات والمازنى والعقاد وتوفيق الحكيم وزكى مبارك وصادق الرافعى وطه حسين وعلى أدهم وسلامة موسى وحسين فوزى وشوقى وحافظ وطاهر لاشين وإبراهيم المصرى ويحيى حقى ومحمد تيمور ومحمود تيمور .

كما قرأت فى دار الكتب عيون الأخبار وصبح الأعشى .. والبيان والتبيين ودواوين المتنبى والبارودى وابن الرومى ومهيار .
وكانت الجلسة فى دار الكتب مريحة وتساعد على طول المكوث ونسيان المرء أوقات الطعام ..

وقد سهل علينا الاطلاع فى ذلك الوقت أن الدار كانت منتظمة ، وكانت تخرج الكتب للقراء بروحها وقلبها ..

ولكثرة ترددى أصبحت لى علاقة صداقة مع الملاحظين فى القاعة ، وكانوا يسهلون لى الحصول على الكتب ، كما إن قاعة المطالعة فى دار الكتب كانت مليئة بالمجلدات التى تسهل للإنسان القراءة دون كتابة الاستمارة وانتظار ورود الكتاب .

وكثيرا ما يقع المرء على جمال يفوق الوصف جاء مصادفة فى المقعد القريب أو البعيد .. جاءت زائرة تطلع أو مستشرقة تدرس وتطلع على المخطوطات ، وأنا أعشق الجمال وأحب أن أراه فى الطبيعة وفى الإنسان .

وفى دار الكتب تعلمت من الحكمة المسطرة بالخط الفارسى على الجدران .. كل كتاب تقرأ تستفد .. فكنت أقرأ كل كتاب يقع فى يدى ولو جاء خطئا من مخزن الدار .
كما تعلمت " وخير جليس فى الزمان كتاب "

أما الآداب الأجنبية فقد قرأت تشيكوف بهوس وتأثرت به جدًا ، وتأثرت أيضا بديستويفسكى وهو كاتب ليس له مثيل من ناحية الغوص فى أعمق أعماق النفس البشرية ، كما أعجبت جدا بمكسيم جوركى ككاتب عظيم خلق نفسه بيديه وعاش الحياة بطولها وعرضها .

أدب هؤلاء الثلاثة فيه الصدق والواقعية ويتعدى كل الحدود التى يفرضها النقاد ، وإليهم يرجع الفضل فى حرصى على إضاءة الشخصية الإنسانية من داخلها وليس من ظاهرها السطحى ، وذلك عن طريق الاهتمام بالانفعالات النفسية وتأثير الظواهر الخارجية على الأعماق .

تعقيب على قراءات محمود البدوى بدار الكتب :

احتفظ محمود البدوى بخمس دفاتر صغيرة فى مكتبه ، ولم تمتد إليهم يد عابث ، خلال تنقلاته من مسكن إلى آخر منذ جاء إلى القاهرة ، كتب على واحد منه عام 1929 والثانى عام 1943 والباقى بدون تاريخ ..

كتب فى ثلاث منهم عناوين الكتب التى قرأها فى الدار باللغتين العربية والإنجليزية وهى عن تاريخ الأدب وعن الرواية والقصة والفلسفة والتاريخ والطب والاجتماع ، والدفتران الآخران أحدهما كتب فيه مفردات لغوية وعنونه بعنوان "لغة" ، والثانى عنونه باسم « مختارات شعرية » وكتب فيه الكثير من أشعار المتنبى وابن الرومى والبحترى والمعرى .
===============

تعلم الموسيقى



محمود البدوى فى معهد الموسيقى العربية مع أصدقاء

تعلم الموسيقى



حينما نزح البدوى من الريف إلى القاهرة لم يكن له أهل فيها ، فأقام فى كثير من البنسيونات والغرف المفروشة وأحس بالفراغ ولم يستطع صحبة أهل المدن ونفر منهم ، فكان يرى السيارات الفخمة التى يقودها الشبان الناعمون الطائشون تخطف الطريق ، وكان يفكر فى الحياة التى يعيشها هؤلاء الفلاحون وفى ليل الريف وظلامه ، وقارنها بحياة الناس فى المدينة ويشعر بالضيق الشديد، ويجد لذته فى القراءة والاستماع إلى الموسيقى ، وحبه وعشقه لها تعلمها على يد رجل موسيقى من أصل تركى . وجاءت فرصته فى أن يتعلمها مع زملاء المدرسة « بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية » . كان المعهد فى حاجة إلى معونة سخية من وزارة المعارف .. فرأى أن يضم لفصوله الدراسية، بعض طلبة المدارس الثانوية الأميرية .. ليعزز طلب المعونة " .

وعن هذه الفترة يقول البدوى .. « كان أمير الشعراء شوقى بك .. يزور الفصول يوميا .. ويقف على باب الفصل صامتا دقيقة واحدة وفى فمه السيجار .. وندر ما كان ينطق أو يوجه إلينا سؤالاً .. ثم يذهب سريعا كما جاء ..
وبعد الدراسة التمهيدية الطويلة .. اخترت الكمنجة كآلة .. وكان هذا من سوء اختيارى لأن دراستها صعبة .. وكنت أستعد للبكالوريا بكل جهودى فأهملت الموسيقى .. وانقطعت عن المعهد » .
================

التعليم الثانوى

التعليم الثانوى بالمدرسة السعيدية

يقول البدوى : " فى حصة الهندسة بمدرسة السعيدية دخل المعاون ووزع علينا مسرحيات شوقى .. ومثل هذا كان موجودًا فى كل المدارس من الابتدائية والثانوية والجامعات .. كان كل به مكتبة ضخمة تضم كل الكتب والمراجع العلمية والأدبية ..

والمدرسون فى ذلك الوقت حبهم للأدب واضح والاطلاع والقراءة مستمرة .. وكانوا يضربون لنا المثل بشعر شوقى .. ونكت المازنى وفكاهاته وسخريته المطلقة .. وبعضهم كان يحب .. مصطفى صادق الرافعى لأسلوبه البليغ إلى درجة التمجيد .. وليس هذا أستاذ أدب أو عربى .. ولكن يقطع الدراسة فى حصة الجغرافيا والطبيعة .. ويحدثنا عن خبر هؤلاء الأعلام .

وكان الشيخ شتا .. وهو شيخ مع لبسه البدلة .. يجعلنا ننتقد أساليب الكتاب المعاصرين .. وانتقدنا أسلوب طه حسين .. وأنه كثيرا ما يطيل حيث يتطلب الأمر الإيجاز ويكثر من المترادفات ويستعمل لفظة غليظ فى إسراف.. وتبسم الشيخ شتا.. وقال لنا إن لفظة غليظ موجودة فى القرآن "عذاب غليظ" فقلنا له إن الوصف فى القرآن هو أدق وأبلغ موضع .. ولكن الأمر يختلف مع طه حسين .. لذلك اللفظ ..

وكان الشيخ طموم يجعلنا .. نكثر من قراءة كليلة ودمنة حتى إننا من كثرة معاودتنا له حفظناه .. وما من كاتب فى الدنيا فى بلاغة ابن المقفع ..

وفى البكالوريا .. كانت مقررة علينا مسرحية بالإنجليزية .. نحب حياة " إبراهام لنكولن " وقد وجدنا فيها ما حببنا إلى الرجل بصفاته العظيمة .. وأخذت أقارنه "بعمر ابن الخطاب" والقياس مع الفارق بالطبع ــ فعمر قمة القيم فى المخلوقات البشرية بعد الأنبياء والرسل .. ولكن خط حياتهما واحد .. عدل .. وصرامة .. ونظام .. وتقشف إلى درجة التصوف .. فى الحياة الخاصة .. ووقوف فى وجه الظلم .. واستضعاف الإنسان لأخيه الإنسان .. الفقير والضعيف عند عمر .. والعبيد فى الجنوب عند لنكولن ..
ثم موت كل منهما بالاغتيال .. خنجر هناك فى المسجد ورصاصة هنا فى المسرح ..
============

كلية الآداب و الجامعة المصرية


كلية الآداب بالجامعة المصرية




ونجح محمود فى امتحان البكالوريا والتحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية إبان عمادة الدكتور طه حسين لها ، وظل على عهده بالذهاب إلى دار الكتب يوميا يقيم فيها إقامة مطلقة .. "وكما يقول .. لضيق ذات اليد" فلم يكن فى استطاعته شراء كتب التراث ، مما أفاده من ناحية الأسلوب وانتقاء الألفاظ والبعد عن الألفاظ السوقية والخلخلة فى الجملة وضعف التركيب ، وتأثر بالزيات والمازنى وحدهما من بين أساتذة البلاغة فالاثنان من أصحاب أصح الأساليب العربية ، أما طه حسين فكثير المترادفات والجمل الاعتراضية لأنه كان يملى والذى يملى غير الذى يكتب بيده " . .

ويقول البدوى " وعلى الرغم من أننا كنا ندرس فى البكالوريا وفى كلية الآداب شكسبير ودكنز وتوماس هاردى .. وملتون وجولد سميث .. وجويس .. وغيرهم من الكتاب والشعراء الإنجليز .. ولكن قراءة الكتب المقررة غير القراءة بالاختيار .
فقد أخذت دافيد كوبرفيلد لدكنز .. وصورة دوريان جراى لاسكار وايلد .. والحلم لزولا .. كما أخذت الديكاميرون والهيمبترون ..

وفى دراسة قيمة عن الأسلوب بالجامعة المصرية فى أوائل مراحل تكوينها سألنا الأستاذ ولا داعى لذكر اسمه وقد نسيته .. لأنه كان يتملق طه حسين .. وكان طه حسين وقتها عميدا لكلية الآداب بالجامعة ..

سألنا الأستاذ بعد استعراضه لكلمة « بوفون » الخالدة .. " الأسلوب هو الكاتب ".

سألنا عن أجمل الأساليب فى الكتاب المعاصرين .. وكانت الغالبية من الطلاب خارجة من معطف "المنفلوطى" وعباءة "الزيات" فقلنا المنفلوطى والزيات.. والمازنى.. والعقاد .. وصادق الرافعى .. وظهر على وجهه الامتعاض وهو يسأل :
ــ وطه حسين .. ؟

فأجبنا .. بأننا لم نقرأ له بالدرجة التى تجعلنا نحكم على أسلوبه ، وفى إجابتنا كل الصدق .. فقد كان المنفلوطى.. والزيات.. والمازنى .. والعقاد .. وصادق الرافعى.. هم بلغاء العصر فى نظرنا .. وأسلوبهم فى التعبير هو أجمل وأرق الأساليب ..
============

مجلة الرسول

مجلــة الرســول

كان محمود دائم التردد على دار الكتب المصرية بباب الخلق للاطلاع ، ويمر على مطبعة ومجلة الرسول وهو فى طريقه إلى البيت فيرى محمد على غريب ( الذى تعرف عليه فى المكتبة الأدبية بأسيوط ) وصاحب المجلة فى عمل متصل ، فيجلس ليقرأ أو يكتب ، وكتب مقالتين بالمجلة الأولى عن الموسيقى والثانية عن الموسيقى والغناء عام 1930 ..

ويقول " لم تكن القصة هى أول شىء نشر لى ورأيته مطبوعًا .. فإن أول ما نشر لى مقالة قصيرة عن الموسيقى نشرت على عمود فى مجلة " الرسول " سنة 1930 على ما أذكر .. وصاحب المجلة هو الأستاذ محمود رمزى نظيم .. رحمه الله ، وكان يتخذ من مطبعة صغيرة فى باب الخلق مقرا ومكتبا .. ويعاونه فى تحرير المجلة من الغلاف للغلاف .. الأستاذ غريب .. ولا ثالث لهما ..

وكنت أنزل من دار الكتب وأذهب إليهما فى المجلة وأراهما فى عمل متصل ، فأجلس لأقرأ أو أكتب .. وأنا مفتون بحروف الطباعة ، وما تخرجه على الورق من ضروب الكلام ..

وكتبت مقالة عن الموسيقى والغناء وتركتها على المكتب فى المجلة .. خجلت أن أقدمها لواحد منهما .. ونشر المقال فى العدد التالى ، وفرحت به كثيرا .. فرحت عندما رأيت اسمى مجموعًا لأول مرة بحروف الطبع فى ذيل المقال ..

وفى اليوم التالى لصدور المجلة دخل علينا فراش أسمر يحمل هدية للمجلة .. مسرحيات أمير الشعراء شوقى بك .. مجنون ليلى .. مصرع كليوباترا ..

وقال رمزى نظيم ضاحكا ؟
ــ هذه الهدية لك أنت ..
ــ لماذا ..؟
ــ لأنها بسبب مقالك ..
ونظرت إليه متعجبا .
ــ لم أذكر شوقى بك فى مقالى ولم أتعرض للشعر .
ــ ولكنك ذكرت موسيقيا يحبه ..
ــ وكنت قد ذكرت بالخير موسيقيا شابا من طلبة المعهد.."
==========

الأدب الروسى

الأدب الروسى

ترك البدوى الدراسة بالجامعة والتحق بالعمل فى وزارة المالية بتاريخ 12/3/1932 ونقل إلى مصلحة الموانى والمنائر بمدينة السويس .. ويقول « كان محمد السباعى وعباس حافظ يترجمان كثيرا من روائع الأدب الروسى.. فعشقت هذا الأدب للتشابه الشديد بيننا وبينه فى الحياة وجو الريف ووصف حياة الإنسان المطحون الذى لا حول له ولا قوة ..

ثم بدأت أقرأ هذا الأدب مترجما من الروسية إلى الإنجليزية من ترجمة الكاتبة الإنجليزية كونستانس جارنت .. وكانت تحب الأدب الروسى وعاشت تنشره بلغتها ..

وبهرنى تشيكوف وديستويفسكى ومكسيم غوركى .. وبهرنى الأخير أكثر لعصاميته وصلابته ولأنه شق طريقه فى الحياة بأظافره .. ولكن تشيكوف كان أستاذ كل من كتب القصة القصيرة وتفرغ لها ..
===========

مؤلفات د . هـ . لورنس

مؤلفات د. هـ لورنس


وحدثنى أديب فى المصلحة التى أعمل فيها عن كاتب إنجليزى من طراز جديد .. وأطلعنى على مقال نشر عنه فى جريدة كوكب الشرق ، فقرأت المقال وازددت شغفا بالكاتب ..
فقد كان كما صوره المقال نفسانيا يحلل أعماق النفس البشرية ، ويصل بتحليله إلى أغوارها البعيدة ، ولم أجد له مؤلفات فى مدينة السويس .
فلما ذهبت إلى القاهرة فى أول إجازة وجدت فى مكتبه ألمانية بشارع عماد الدين كل مؤلفات د. هـ لورنس .. فى طبعات ألمانية (الباتروس) فأخذت منها ما أستطيع دفع ثمنه
(1) . وأخذت أقرأ لورنس بنهم وتأثرت به من ناحية تصوير الجنس بعنف(2) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) م. الثقافة أكتوبر 1977 .. مجموعة ألباتروس موجودة بمكتبة محمود البدوى بدار الكتب المصرية بكورنيش النيل بالقاهرة . (2) م. الصياد 28/11/1974 .

بداية العهد ب مجلة الرسالة



بداية العهد بأستاذه الزيات

قرأ البدوى آلام فرتر للزيات وبعدها روفائيل خير أعمال لامرتين الأدبية، فأحب الرجل وأعجب به لأنه لم يتعمل فى الترجمة ولم يتصنع ، فجاءت ترجمته آية الآيات الفنية ، ولم يبدأ حياته الأدبية بالهجوم ــ مستوقفا الأنظار ــ كما فعل غيره من الأدباء ، ولم يهرج لكتبه بالطريقة الأمريكية المعروفة لكثيرين ، ولم ينشر عن نفسه ثناء ولا حمدًا ، ولم ينزل بفنه إلى مستوى العامة ، ولم يكتب ليرضى الجمهور ويتملق الناس ، وإنما عمل فى صمت وسكون وإخلاص ..

" وأنشأ الزيات مجلة الرسالة بعد رجوعه من العراق ، وأعد لها العدة عن فهم وبصيرة بما يجرى حوله ، فقد كان العالم العربى من مشرقه ومغربه فى حاجة ماسة إلى مثل هذه المجلة الأدبية ، فلما صدرت استقبلته استقبالاً عديم النظير ..

كانت توزع سبعة آلاف نسخة فى العراق وحدها ، وكنت وقتها فى مدينة السويس وأقدر الرجل وأجله كأستاذ لجيل ، فقد تحولنا إليه بعد أن شبعنا من المنفلوطى ، تحولنا إليه نتغنى بأسلوبه وبلاغته ..

ولما وقع فى يدى العدد الأول من المجلة فرحت بها وكتبت له أهنئ وأمجد عمله ولم أذكر فى الرسالة اسمى ، وظل الرجل الكريم الصفات لا يعرف صاحب هذه الرسالة إلى آخر أيامه ، ولكنها أبهجته حقا ، وشرحت قلبه لأنها صادرة من مجهول أكثر من أى شىء آخر ، فعلق عليها فى العدد الثالث من المجلة بالعبارة التالية .. وقلما تجد أنبل عاطفة من رجل يعنى بعملك لذاته، ثم يحمل نفسه ووقته جهد الكتابة إليك صفحات فى تأييد وقدرة ، ثم لا يريد بعد ذلك أن يبوح لك باسمه . ويقول البدوى " أوصى أبناء هذا الجيل بالرجوع إليه " .
==============

ترجمة الأدب الروسى إلى اللغة العربية

ترجمة الأدب الروسى إلى اللغة العربية

كان البدوى ــ وقت صدور مجلة الرسالة ــ يقرأ الأدب باللغة الإنجليزية والأدب الروسى خاصة مترجما إلى الإنجليزية بقلم الكاتبة الإنجليزية كونستانس جارنيت .. لأنه كما يقول " الجو الروسى التشيكوفى على وجه التحديد يصور حياة الفلاح الروسى تماما كالفلاح المصرى" فبدأ يترجم أعمالاً للأدباء الذين كتبوا عن بشر يشابهوننا ، ويقول :
" ترجمة الآداب الأجنبية علمتنى ما لم أتعلمه من أديب آخر ، لقد حفرت طريقى بنفسى ولم أعتمد على الآخرين ، فقد اتخذت منذ البداية خطى ومنهجى وشكلى فى الكتابة من أدباء الغرب الذين قرأت وترجمت لهم وعلى رأسهم جميعا تشيكوف .

وحينما صدرت مجلة الرسالة
كان يقرأ قصة "الجورب الوردى" لتشيكوف وترجمها ، ودفعه حبه لأستاذه الزيات أن يرسلها إليه بمقر المجلة بشارع حسن الأكبر فى حى عابدين ، ونشرت الترجمة بالعدد العشرين فى 1/12/1933 وشجعه ذلك على أن يترجم غيرها وغيرها من القصص القصيرة لتشيكوف ومكسيم جوركى .. وموبسان ..

* * *

الفصل الثانى ـ تفتح المشاعر للكتابة والقدرة على التأليف

الفصل الثانى
تفتح المشاعر للكتابة والقدرة على التأليف

الرحلة إلى أوربا الشرقية عام 1934 ورواية الرحيل .
المقابلة مع العالم النفسى سيجموند فرويد .
المنابع الأولى للفن القصصى .
المجموعة القصصية رجل .
نقد رواية « الرحيل » والمجموعة القصصية « رجل » بأقلام الأدباء والنقاد عام 1936 .

الرحلة إلى أوربا الشرقية عام 1934

الرحلة الأولى إلى أوربا الشرقية
عام 1934 ورواية الرحيل














زار البدوى أوربا الشرقية على نفقته الخاصة ولم يكن يفكر فى كتابة قصص عنها، ولكن أهلها أثروا فى عقله ووجدانه وتحركت مشاعره ووجد نفسه فى حالة انفعال ويزخر رأسه بمئات الأحداث الصغيرة والكبيرة ، فأخرج دفترا صغيرا من جيب سترته وسجل فيه ملاحظاته قبل أن تنمحى من ذاكرته وتضيع منه ، وحينما عاد إلى مصر استعرض فى ذهنه صور الحادثات التى مرت به فى رحلاته وشغلت جانبا من تفكيره ووقته فأخرجها على الورق فارتاح ذهنه وصفيت نفسه ..

* * *

مثال عن بعض الملاحظات التى سجلها بالدفتر الصغير عن الرحلة :

الإسكندرية ــ الوداع فى الباخرة ــ فى عرض البحر ــ الأسى وقليل من الوحشة ــ الركاب ــ الليل والموج ــ السامر على ظهر الباخرة ــ شقراوات ــ النوم ــ اليقظة واستقبال الشمس ــ غروب الشمس ــ السحاب والليل ــ الجزر ــ بيريه ــ الوصول إلى أثينا ــ محطة أثينا ــ الآثار خلال الطريق ــ اليونانى فى الحان ــ اليونانيات ــ الطلبة التشكسلوفاكيين فى الباخرة ورحلتهم إلى القطر المصرى ــ 22 قرش الواحد إلى أسوان شهران ــ الطالبات التشكسلوفاكيات الراكبات من أثينا والذاهبات إلى بلادهن ــ الأنس بالحديث معهن ــ الزواج ــ العناوين ......

* * *

الاقلاع فى عرض البحر ــ جبال ــ غروب الشمس ــ سحب جميلة ــ فتنة الطبيعة ــ الدردنيل ــ البوليس التركى ــ سحب الباخرة عند بدء مرمرة ــ الجندى التركى يرتل القرآن .
الآستانة ــ منظر عام الضواحى ــ النزول ــ الطعام ــ المعيشة ــ أيا صوفيا ــ فى الترام .
الإقلاع ــ البسفور أبدع ما صور الله .

* * *

كونستنزا
ـــــــــــــــ
الجمرك ــ العربات ــ أول حمال ــ الفنادق ــ فندق النزول ــ الخادمات ــ بلاج مامايا ــ الصور على الشاطئ ــ عيون جميلة .
فى الفندق ــ آه أنت تعب ــ النوم .

* * *

إلى بوخارست
ــــــــــــــــــــــ
الليل ــ المطر فى بوخارست ــ المدينة ــ طريق النصر ــ حديقة كارول ــ الخادمة فى الفندق ــ الغريزة الجنسية ــ المطر .
اليوم التالى ــ صحو ــ مكتبة ــ شراء كتب لأسكار وايلد ولورنس وجويس والبحث عن مجلة .... والحديث مع الآنسة ... المطاعم ــ النساء فى الشارع ــ الغرف المفروشة ــ طبع الرجال تغلب عليه الغلظة .

* * *
العودة إلى كونستنزا
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
فى القطار ــ جاره ــ المقعد غير مريح ــ استبداله ــ تنازلى عن مقعدى لسيدة والحديث معها ــ استغلال العطف .
المراعى ــ قطعان البقر ــ القمح ــ الفلاحين فى الحقول ــ الأجران ــ كثرة العشب ــ المراعى ــ خصوبة الأرض ــ القرى فى الجبل ــ الدانوب ــ ملك الأنهار ــ غروب الشمس فى الجبل .
منظر السحب فى كونستنزا ساعة الغروب ــ المنظر من فندق بالاس ــ الفنانون يرسمون لوحًا لمنظر الغروب ــ الإنجليزيان فى المطعم ــ حديث الرومانى معهما ــ فى المطعم تأكل بعينيك وقلبك وفمك وأذنيك ــ بائعة الفاكهة والعربجى .

* * *

فى الكازينو
ـــــــــــــــــ
وصف الكازينو ــ الموسيقى ــ الروليت ــ القبعة وما تكلف من مصاريف ــ المقامرون ــ السيدة الجميلة فى المطعم ... الحديث مع القطة ــ الصور الزيتية فى الكازينو ــ صورة صيادوا الدانوب .

* * *

ويقول البدوى

" وبعد رحلة طويلة إلى أوربا الشرقية على باخرة رومانية قبل الحرب العالمية الثانية ، بدأت من الإسكندرية إلى اليونان ثم تركيا وإلى رومانيا والمجر عبر نهر الدانوب ، كان العالم يعانى من الكساد ومن أزمة اقتصادية طاحنة والرخص الشديد يعم الآفاق .. وعلى الظهر " الدك " بسبعة جنيهات مصرية ذهابا وإيابا .. ولكن لم أنم على الظهر فقد استأجرت قمرة بحار فى السفينة بجنيهين طوال الرحلة .. وكنت أنزل إلى القاع وأختلط بالبحارة والوقادين وهم يجرفون الفحم إلى نار السفينة، ( كانت السفن وقتها تتحرك آلاتها بالفحم ) ويقصون حياتهم فى البحار والموانى ..

وعدت من هذه الرحلة متفتح المشاعر للكتابة ، ووجدت فى نفسى القدرة على التأليف وانقطعت عن الترجمة ، فكتبت رواية قصيرة باسم "الرحيل" "وهى قصة شاب على ظهر مركب يبحر من الإسكندرية إلى البسفور ، يحكى فيها انطباعاته عن البلاد التى زارها" . وطبعتها فى عام 1935 على نفقتى الخاصة ، وعلى ورق " رومان " أغلى أنواع الورق فى مطبعة الرحمانية بالخرنفش ، ولم يتجاوز طبع القصة الجنيهات العشرة ، وبعد هذا أخذ ذهنى يفكر .. ويشغل بتأليف القصص "

و" أحب بطبعى الريفى السماحة والنخوة والكرم والشهامة التى ألاقيها من الغريب ، وهذه النخوة وجدتها فى أوربا الشرقية ، عندما زرتها وأنا شاب فى الخامسة والعشرين ، وهى السن التى بدأت فيها الكتابة والنشر ، وأنا هنا لا أتحدث عن الأدب الإبداعى ، ولكنى أتحدث عن أدب الحياة ، عن الناس العاديين الذين يعملون فى معترك الحياة ، إن اللحظة التى شاهدت فيها موظفة فى محطة السكة الحديد شابين يرتعشان بالخارج من البرد والثلوج تتساقط عليهما ، فخرجت من مكانها الدافئ ، وأدخلتهما فى غرفة الانتظار بالمحطة المخصصة لكبار الزوار .. هذه اللحظة فيها لمسة إنسانية من الموظفة ، وفيها شهامة يبقى أثرها فى النفس ، كما أنها دليل على الروح الإنسانية الشجاعة فى أعماقها التى جعلتها لا تخضع للقوانين " ..

* * *

ويقول نعمان عاشور تحت عنوان محمود البدوى فى الميزان المنشور بمجلة التحرير فى 3/3/1959 :
" واصطدم بعقبة النشر ولكنه قاوم ولم ييأس ، وكانت أمنيته فى ذلك الوقت أن تدخل القصة المصرية إلى كل بيت وإلى كل جيب وأن يكون ذلك عن طريق إصدار مسلسلة للقصة تصدر كل شهر ويكتبها القصاصون المصريون ، واختار لهذه المسلسلة عنوانا هو "مكتبه الجيب" فكان أول من استخدم عبارة الجيب فى صحافتنا وأدبنا " .

==================

المقابلة مع العالم النفسى سيجموند فرويد

المقابلة مع العالم النفسى الشهير سيجموند فرويد بالنمسا عام 1934

تسبب كثرة تنقل محمود البدوى من مسكن إلى آخر فى ضياع الكثير من الأوراق والمستندات بعد قيامه برحلته عام 1934 . وسأكتفى بنقل بعض ما قيل بالصحف والمجلات عن مقابلته للعالم النفسى الشهير سيجموند فرويد .

نشر بمجلة الهدف عدد مايو 1960 مقالة لأبو خالد عن كتاب " غرفة على السطح " وجاء فى نهاية المقال .. بقى أن تعرف أن محمود البدوى هو الكاتب العربى الوحيد الذى التقى بالعالم النفسى الشهير "سيجموند فرويد" فى النمسا عام 1936 والتصق به فترة غير قصيرة ، وتعدد بينهما اللقاء والمكاتبات ــ ولعل هذا يلقى ضوءا على اهتمام البدوى والدوافع والحوافز الجنسية عند أبطال قصصه ، لأنه يؤمن إيمانا راسخا بمذهب " فرويد " فى التحليل النفسى ، ويرجع انفعالات البشر دائما إلى أصلها العضوى ، والبدوى حريص على أن يطبق مبادئ فرويد التحليلية على أشخاص قصصه وتصرفاتهم ، وينهج فى ذلك نهجا علميا دقيقا بقصد الدراسة والتنوير لا الإثارة والتشويق ..

* * *

نشرت مجلة الأدب فى عدد يوليو 1961 مقالة للأستاذ ماهر شفيق فريد وهى عن نقد مجموعة غرفة على السطح ، وفى بداية المقال قال :
"وجال فى أوربا حيث التقى بعميد مدرسة التحليل النفسى سيجموند فرويد وتأثر به فى إلقاء الأضواء العلمية على السلوك العاطفى لأبطال قصصه ، وجال فى ربوع آسيا فكان لذلك أثر واضح فى كتاباته ، وعندما قفل راجعا إلى مصر كانت دوامة الحرب العالمية الثانية ( 1939 ــ 1945) تعصف بالملايين وتقوض القيم الإنسانية فى النفوس ، ومن هذه الأجواء استوحى مجموعته الأخيرة " غرفة على السطح " .

* * *

وفى مقال بقلم فوزى سليمان بصحيفة المساء 22 نوفمبر 1962 تحت عنوان " كاتب الجنس الذى يؤمن بالخير فى الإنسان " قال :
" هذا الكاتب الإنسان الذى يؤمن بالخير فى الإنسان وبالحياة ، عندما ذهب إلى أوربا فى الثلاثينيات من هذا القرن ــ تعرف على سيجموند فرويد من أعماله وتتلمذ عليه وتعرف على فلسفته عن قرب ، وأدرك العناصر الإنسانية فى هذه الفلسفة ، ومن خلال طاقاته الأدبية " .

* * *

وكتب عاشور عليش مقالة بصحيفة المساء 30 مايو 1963 تحت عنوان " مع كاتب القصة الذى تحققت أمنيته هذا الأسبوع " .. قال :
"هذه الوحدة التى استشعرها محمود فى القاهرة فى أول عهده بالشباب ، هى التى دفعته إلى الائتناس بالناس ، وصداقتهم ، مهما اختلفت مشاربهم وألوانهم ، ويلتمس لهم الأعذار فى ضعفهم وتصرفاتهم .. وهى التى أغرته بدراستهم ودراسة مشاكلهم ، وفهمهم نفسيا واجتماعيا . هذه الدراسة النفسية والولوع بكل ما يكشف النفس الإنسانية ، هو الذى دفع بمحمود البدوى إلى لقاء العالم النفسى الشهير دكتور فرويد فى فيينا بالنمسا عام 1934 ويكون بذلك محمود البدوى أول عربى يجتمع بالعالم النفسى الشهير ويناقشه فى مؤلفاته ونظرياته . ومن هنا يتضح أن رحلات البدوى إلى الخارج لم تكن للسياحة أو الزيارة فقط وإنما للمعرفة والدراسة ، ولذا يلح محمود البدوى على كل أديب وخاصة على كتاب القصة ، أن يسافروا إلى الخارج " .

* * *

وكتب الأستاذ شكرى القاضى بصحيفة الجمهورية 24 فبراير 1986 تحت عنوان "فارس القصة القصيرة يودع الحياة عبر مظاهرة صحفية :
" تفرد فى المزج بين الرومانسية والواقعية فى قصصه التى تأثر فى تحليل شخصياتها بالعالم النفسى الشهير "سيجموند فرويد " خاصة بعد أن التقى به أثناء رحلاته فى أوربا " .

===============

المنابع الأولى ل الفن القصصى

المنابع الأولى للفن القصصى

يقول البدوى
" حبى للقصة القصيرة وراءه باعث رئيسى ، هو ولعى بالإيجاز والاختزال اللذين أجدهما فى طبيعة القصة القصيرة ، ويحضرنى هنا أسماء كثير من الباحثين الغربيين الذين شهدوا للقصة العربية فى قرونها الهجرية ــ الإسلامية ــ بالرقى، لا لشىء إلا لأنها تحتوى من البلاغة التى هى التركيز والتكثيف الشىء الكثير.. إنهم يؤكدون أن القصة القصيرة إنما هى فن العرب لا الغرب ، فالعرب بطبيعتهم رحالون من مكان إلى آخر ، وبين هذا المكان وذاك يرددون حكاياتهم الموجزة ، فالحياة العربية ، لطبيعتها البدوية ، لم تكن تمكنهم من سرد القصة الطويلة أو التمهل عند تفصيلاتها ، ومن هنا ، أستطيع القول إن تعريف القصة القصيرة العربية عند العرب كما هى الآن لا تزيد على ربع ساعة فقط .

وهذا الوقت الوجيز هو الذى يمنح القصة حلاوتها المميزة .. وهو ما جعلنى أعود للأدب العربى وأحاول أن أغترف من المنابع الأولى للفن القصصى .. وبالتحديد من القرآن الكريم ..
لنتوقف قليلا عند هذه النقطة لأهميتها ..

انظر إلى عظمة الإيجاز القرآنى وهو يقول :
" ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم " .
إنها عبارة بليغة تعبر عن نفسها بنفسها ، وتحمل معانى كثيرة قل أن يستطيع التعبير الطويل أن يعبر عنها ، اقرأ هذا الحكم " إلا أن يسجن أو عذاب أليم "

ثم أنظر إلى مثل آخر :
" يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين " انظر إلى دلالة المعنى الذى تطلقه امرأة ، ومع هذا ، فإن الرسالة تصل بشكل فيه بلاغة وصدق ويحوطه التقدير والإجلال .

إننى أستطيع الخروج من كل آية بقصة قصيرة يمكن أن تتوافر فيها شرط ( لحظة التنوير ) كما يقال لنا الآن فى التعبير عن القصة القصيرة .. إن القرآن الكريم به أول قصة قصيرة .

وعلى هذا النحو ، فإننى أستطيع بلفظ أو أكثر من لفظ ( منحوت ) الوصول إلى أدق المعانى وأكثرها تعبيرا ودلالة .

غير أننى لا يمكن أن أغبن الغربيين حقهم فى الفن الإبداعى للقصة القصيرة ، فإننى لا يمكن قط أن أنسى براعة " تشيكوف " وهو يروى القصة فتصل إلى درجة بعيدة من الإعجاز ، لا لشىء ، إلا لأنها تحتوى على التركيز والمعنى فى جلسة صغيرة ..

==================

نقد رواية الرحيل والمجموعة القصصية رجل عام 1936

المجموعة القصصية " رجل "

بعد رحلة البدوى إلى أوربا الشرقية ، وجد فى نفسه القدرة على التأليف وانقطع عن الترجمة ، فنشر قصة " الرحيل " ، وكان يكتب قبله محمود تيمور وأحمد خيرى سعيد ويحيى حقى ، ولكنه اتخذ منذ البداية خطه ومنهجه وشكله فى الكتابة عن أدباء الغرب الذين قرأ وترجم لهم وعلى رأسهم جميعا تشيكوف ، وتعلم منها ما لم يتعلمه من أديب آخر .

ويقول :
" بدون شك أنا تأثرت بالشكل والأشخاص والإيقاع عند تشيكوف فأنا أعتبره أعظم كاتب للقصة القصيرة .. وهو الذى أعطى لى الشكل الذى أعيش فيه حاليا ولن تجد جيلاً محددًا أنتمى إليه ، فلم أتأثر بأحد قبلى .. لقد حفرت طريقى بنفسى ولم أعتمد على الآخرين .

وأخذ ذهنه يفكر ويشغل بتأليف القصص القصيرة .. ويقول:
" أخذت القصة القصيرة ، لأنى بطبعى أحب التركيز وأستطيع أن أضع فيها الفكرة التى أضعها فى القصة الطويلة ، وهى تحتاج للقارئ الشديد الذكاء اللماح الذى أكتب له ، وقد أكون أخذتها لأنى أحب التخصص ، ولكثرة ما قرأت لتشيكوف .. أو لأن نفسى قصير .. أو لأنه ليس عندى من الصبر ما يساعدنى على كتابة القصة الطويلة ..

* * *

جمع البدوى القصص التى كتبها والمسماة باسم " رجل .. الأعمى .. النجم البعيد .. فى الظلام " بين دفتى كتاب وطبعها على حسابه بالمطبعة الرحمانية بالخرنفش عام 1936 .

================

نقد رواية " الرحيل " والمجموعة القصصية " رجل "

حينما صدرت الرواية الوحيدة " الرحيل " عام 1935 والمجموعة القصصية " رجل " عام 1936 .. تناولتهما الصحف والمجلات بالنقد والدراسة والتقييم، رغم أن مؤلفهما يعد كاتبا صغير الحجم ــ فى ذلك الوقت ــ بجوار عمالقة الأدب الذين يشغلون الساحة الأدبية فى تلك الفترة .

* * *

حينما صدرت الرحيل ، كتب على دياب بجريدة السياسة اليومية :
" أول ما يمتدح فى القصة ولعلها آخرها ــ فالأمر سيان ــ هو أسلوبها الفخم الرائع ، الذى جمع بين بديع الأدب القديم وبلاغته وفصاحته ، وجزالة الجديد وبساطته وتعابيره ، وقد أدخل الكاتب فى قصته ألفاظا وتعابير غريبة ــ ولكنها مستحبة غير نابية ــ فسما بذلك بأسلوب القصة وجعلها شيئا جديدا فى القصص المصرى الحديث وأساليبها .

أما ما يستحق النقد من القصة فهو تفككها وعدم ارتباط أجزائها كل بالآخر وهذا ما يبعدها عن تعريف القصة اللفظى وهو ــ الاستطراد والمتابعة ــ ولعل هذا ناشئ من مراجعة موضوع القصة أثناء الطبع وحذف ما لا يجيز القانون والعرف والآداب العامة نشره منها " .

* * *

وكتبت صحيفة الأهرام فى 18/12/1935 :
" عنوان قصة لطيفة دبجتها براعة حضرة الأستاذ محمود البدوى ، وتدور حوادثها على رحلة شاب مصرى إلى إسطنبول وما وقع له من الوقائع الغرامية فى أثنائها ووصف بعض الأماكن التى زارها .

* * *

وكتبت جريدة الصباح فى 21/2/1936 عن المجموعة القصصية " رجل " :
"لقد قرأناها كلها لأن شيئا فيها كان يدفعنا إلى قراءتها ، ذلك هو الصدق الذى نبحث عنه فى كل شىء ، فطابع الصدق فى هذه القصص كان يعيننا على تذوقها والاستمتاع بما فيها ، ولعل هذا الطابع الذى نحبه ونسعى إليه كان ظاهرا جدا وواضحا كل الوضوح ، فى قصة " الأعمى " فهذه الصورة الريفية الإنسانية لا يمكن أن تكون منتزعة من الخيال ، فإذا كانت كذلك فإن صاحبها لبارع جدا وأنه لصاحب بصيرة نفاذه إلى الحقيقة دون أن يراها ، وثمة شىء آخر تتسم به هذه القصص ذلك هو أدب المؤلف ، أو بعبارة أخرى عدم ميله إلى ما هو مستقبح ، ولأفسر ذلك فأقول أنه تحاشى أن ينصر الرذيلة، بل عاملها بمنتهى الهوادة حتى انتزع منها روحها ، وفى قصة الأعمى ترك الرذيلة تؤدى مهمتها لكنه عاقب أصحابها عقابا نفسيا رائعا .. وفى القصص الأخرى كبح جماحها وجعلها تنسحب من الميدان .

وبعد .. فقد لا ينقص هذه القصص إلا قليل من المراجعة ليصبح أسلوبها يستحق ما يحمله من فكر صادق ورأى صائب وأدب رصين .

* * *

قالت الجريدة السورية اللبنانية 17 أيلول 1936 عن هذين الكتابين :
"مكتوبه بأسلوب سهل بليغ وفيها تحليل لشتيت من الخوالج النفسية ، أما حوادثها فتسترعى انتباه المطالع لتناسقها وارتباطها ووصفها البيئة المصرية ، وقد أعجبتنا بصفة خاصة قصة الأعمى ، فهى والحق من أروع القصص القصيرة التى طالعناها .

والكتابان جميلا الطبع وهما حلقتان من سلسلة كتب يعدها حضرة المؤلف تحت عنوان "مكتبة الجيب" فبينما نثنى على أدبه نتمنى أن يصدر فى القريب بقية المؤلفات التى أعلن عنها ، فإن الأدب العربى بحاجة إلى مثل هذه الجهود المنتجة " .

* * *

وكتبت مجلة الشباب فى 10/6/1936 :
"قصص تبلغ فى بعض الأحيان مبلغا غير يسير من الإجادة والاقتراب من الكمال الفنى ، أما الكتيب الأول فقد أسماه مؤلفه الأديب محمود البدوى "الرحيل" وهو كذلك قصة جميلة محبوكة ضمنها مؤلفها الشاب خطرات نفسه ولواعج صدره ، وجمع إلى هذا جمالاً فى أسلوبه ، ودقة فيما يرسمه من التصاوير حتى لتعد بعض صفحاتها مثالاً طيبا لجهود الأدباء الشبان ..

..... وعندنا أن مثل هذه الجهود المبارك عليها فى الأدب التى يبذلها بعض الأدباء الشبان كالأديب البدوى هى التى يصح أن تتوجه إليها عناية القارئين وتشجيعهم ، فهى تبشر بمستقبل بسام فى الأدب وفى القصة .

* * *

وكتب هلال شتا فى جريدة السياسة الأسبوعية 1/6/1936 عن المجموعة القصصية " رجل " :
" أول ما فتننى من الكتاب أنه ــ كسابقه ــ يدفع بالقصة المصرية إلى الأمام دفعا ويرتفع بها شيئا فشيئا إلى حيث يجب أن تكون ، ذلك أن فن القصة فى مصر لم تمض على ولادته إلا بضع سنوات ، ولم يجد من يتعهده من الكتاب ويقف عليه جهوده وفنه اللهم إلا طائفة قليلة لا تعدو أصابع اليد الواحدة عدًا .. يتزعمها المازنى وهيكل وتيمور وطه وأبو حديد والحكيم .. ، فقد نزع البدوى إلى القصة النفسانية التحليلية وفتن بالأدب الواقعى ومحاكاة الطبيعة فى البساطة التى تفيض على أحداثها ثم فتن بالعنف كذلك ومحاكاة النفس البشرية فى فورانها وانفعالاتها .. الكتاب فى مصر والشرق قد اصطلحوا منذ عهد بعيد على أن يبدأوا كتاباتهم " بسم الله الرحمن الرحيم " وخلو الكتاب من هذه السنة الطيبة يحملنا على سوء الظن بالمؤلف وإن كان فى قصته " الأعمى " يدافع عن التشريع الإسلامى فى الجريمة الجنسية دفاعًا فنيا مجيدًا .

وأخيرا نرجو للمؤلف والشبان الذين يكتبون فن القصة بمثل توفيقه نجاحًا وذيوعًا ورقيا مطردًا .

* * *

وكتبت مجلة المصور فى 12/6/1936 :
"أصدرت مكتبة الجيب كتابها الثانى " رجل " وهو مجموعة من القصص المصرية كتبها الأديب محمود البدوى بأسلوب تحليلى رشيق ، واستقى موضوعاتها من صميم الحياة ، فصور الحب والبغض والصفاء والغيرة والسعادة والشقاء تصويرا حسنا ، ولا شك أن هذا الكتاب يعتبر خطوة موفقه فى عالم القصة المصرية .

* * *

وكتب الأديب محمد شوكت التونى المحامى فى جريدة المقطم 23 يونيه 1936 وقال عن هذين الكتابين :
" باكورتان مباركتان انبثق عنهما ربيع الشباب عن عمر هذا المؤلف الأديب ، وثمرتان طيبتان هما القطف الأول من جنى دراسته فى الكتب والحياة ..

لو أنه كان من ذوى الجاه المادى الكبير أو من أصحاب المناصب الحكومية العالية ، أو من ذوى النفوذ فى دور الصحف ووجد من يحرق البخور بين يديه ويغرس له أوراق الورد بين أنهر الصحف والمجلات ويطلق له أناشيد المديح وأهازيج الثناء لكان لكتابيه اليوم شأن أى شأن .

ولكنه شاب مغمور هادئ ينتج كى يرضى رغبته الفنية سواء صاح حوله الصائحون أم أحس بأنه يعمل فى وسط قبور يخيم عليها جلال الصمت ووحشة السكون .

" محمود البدوى كمؤلف يعتبر ظاهرة نفسية تستحق الدراسة فقد خرج من وسط أغرم أفراده بالكتابه القصصية ، فمنذ ثلاثين عاما أخرج شاب اسمه إسماعيل عبد المنعم هو اليوم كهل أو شيخ منزو فى إحدى وظائف وزارة المعارف ــ عدة كتب قصصية كان لها دوى وكان لبعضها فضل السبق فى مضمارها ، فقد لخص شكسبير وكان أول من فعل فى كتاب سماه " على مسرح التمثيل " ولخص موليير وألف قصصا مصرية منها " على سفح الجبل " و" عقد اللآلئ " وغيرهما ، وهذا الشاب منذ ثلاثين عاما هو خال الشاب المؤلف الحديث ، كما أن له خالاً آخر اتخذ المحاماة وتفرغ لها وانزوى عن الاشتغال بالأدب جهرا وإن كان يتعاطاه كمدمن الرحيق سرا ، كان له شغف بالأدب القصصى منذ أكثر من عشرة أعوام ، أخرج فيها عددًا كبيرا من القصص المصرية ، ومنها كتاب سماه " فى ظلال الدموع " وروايات مسرحية أخرى .

وله أقارب آخرون كل ميلهم منصب على الأدب القصصى ، ومع أن " البدوى " لم ينشأ بينهم نشأة جوار ومخالطة ، فقد نما النبت فى أعماقه دون وعى منه واشتعلت الجمرة واتقد لهيبها دون أن يوقدها بإرادته .

وتلك ظاهرة إن دلت على شىء فإنما تدل على أن هذا الوسط قصصى بطبيعته ، يرسل القصة وحى فنه الغريزى وسجية نفسه وفيض خياله لا يتعملها ولا يتصنعها .

هذا الطراز من الكتابة جديد فى مصر ، ولقد أراد بعض الكتاب المصريين الذين لم ينضج فيهم الذوق الفنى ولم يسعفهم الإلهام المواتى أن يقلدوا بعض هؤلاء الكتاب فشطوا وسيطرت عليهم العواطف المكبوتة وبرزت غريزتهم الجنسية فجاءت كتاباتهم عبارة عن تحريض وإثارة للغريزة الجنسية ، وسموا هذا النوع من الكتابة " أدبا مكشوفا " فكان جهلا مكشوفا .

أما الإنتاج الجديد الذى نحن بصدده وهو أدب القصصى الناشئ محمود البدوى فأدب تحليلى سام فى فنه ، عال فى خياله ، مهذب اللفظ ، مغطى المعنى بطبقات من الذوق .

أما قصته الثالثة " الأعمى " فقطعة بديعة جدا من الأدب لو أنها ترجمت إلى الأدب الروسى لحسبته من روائع إنتاج " تشيكوف " .

" فإنى أنصح الأديب البدوى بكثرة الإنتاج ومراسلة الصحف حتى يسخو تعبيره وتصقل عبارته ، ولو أن ذلك لا يمنع كون أسلوبه من أرقى الأساليب العربية فى إنتاج الشباب "

* * *

وكتبت مجلة الهلال فى عددها الصادر فى الأول من يولية 1936 :
" صاحب هذين الكتابين له ولع كبير بالقصة دفعه إلى إصدار هاتين القصتين .

والقصة الأولى " الرحيل " وصف حياة شاب عاشق بأسلوب مؤثر ، أما القصة الثانية أو الكتاب الثانى " رجل " فهو يحوى أربع قصص صغيرة ، الأولى قصة " رجل " التى اختار أن يعنون الكتاب باسمها ، والثانية " النجم البعيد " والثالثة " الأعمى " والرابعة " فى الظلام " .

وقد أجاد المؤلف فى تأليف هذه القصص ، ووفق فى محاولاته الأولية ، ونال من النجاح فى بدايته ما يبشر بأنه إذا استمر على العناية بهذا الفن فسوف يصل إلى درجة مرفوعة من الإجادة والإبداع .

* * *

وكتب محمد على غريب فى مجلة الرسالة 6/7/1936 :
" القصة المصرية عندنا ما تزال فى مهدها اليوم ، وأكبر الظن أنها سوف تبقى فى لفافات الطفولة إلى مدى طويل ، وأن يفقد الأدب العربى عندنا هذه الثروة الضخمة التى انحصرت فى القصة ومنحت الآداب الغربية ما لها اليوم من تفوق ونجاح " .

" لست أثنى على صديقى لأن بينى وبينه هذه الصلة ، فإن من الخير لى وله أن أجاهره بالرأى الصريح ولو كان فيه ما يؤلمه ، فإننى أعرف فيه حسن تقبله للنقد ، ولم تصلح الصداقة يوما ما رشوة بين صديقين يحب كلاهما صاحبه ويخلص له ، فالواقع أن هذين الكتابين اللذين أخرجهما الأستاذ البدوى لقراء العربية من خير المحاولات المفيدة الناجحة فى سبيل بعث القصة المصرية ووجودها ".

واستطرد غريب قائلا عن رواية " الرحيل " :
إنه يرسم صورة من نفسه ، ونفسه ترسف فى أغلال قوية وتحاول الخروج منها ، فإذا عجزت عن المحاولة ترنمت بالإيمان ، وإذا نجحت فى التنفيس عن كرباتها فرحت بهذه الأضواء الباهرة التى يجد فيها حياته كلها وجميع أمانيه " .
ويقول عن قصة " الأعمى " :
" إنها صورة صادقة من أبلغ ما كتب الأدباء المصريون ، وقد امتزج فيها الفن بالواقع ، فترى أمامك مزيجا منها يلزمك أن تعاود قراءتها " .

* * *

وكتب عبد المعطى المسيرى فى جريدة السياسة الأسبوعية 20 يوليه 1936 :
" اختلفت آراء المستشرقين فى الأدب العربى الحديث كما اختلفت أحكام قادة الأدب وشيوخه على إنتاج الشباب ، فمن المستشرقين من يرى أن الأدب العربى لن تكون له مكانة بين الآداب الأخرى إلا إذا استقام له حظ وافر من الفن القصصى ".

" إن المطبعة تغمرنا بالكثير من القصص الركيك ، وأن تهريج الصحف قد شوه جمال نهضتنا الأدبية ولكنا بين الفترة والفترة نستخلص من هذه الوفرة قصة تنسينا الألم وتبعث فينا الرجاء والأمل .

بعد هذه المقدمة نستطيع أن نمضى فى دراسة قصة " الأعمى " للأستاذ البدوى وقد اخترناها بالذات لإعجاب النقاد والقراء بها . يعيش قارئ هذه القصة فى جو خاص هيأه المؤلف فحشد له تجاريبه فجاء محكم التمثيل متماسك الأطراف تصافحه الأطياف ، كأن المؤلف يعنيه بالذات ، فهذه آلامه وآماله وتلك مطامحه وغاياته " .

" إن غاية ما أعبر به عن هذه القصة أنها نموذج للقصة المصرية الحديثة ، إنها القصة المثالية التى يجب أن يطالعها بإمعان كل من تحدثه نفسه بكتابة القصة ، كما أن صاحبها قدوة للشباب الطامحين " .

* * *

وكتب أ . ع . أ . ى فى الصاعقة الأسبوعية 8/8/1936 :
"لا غرو فالأستاذ البدوى جدير بأن يكون مبتدعًا ومجددًا فى فن القصة ، فلقد قرأنا للأستاذ كتابه " الرحيل " الذى كان من خير ما أنتج الشباب فى ميدان الثقافة والأدب .

وسوف يراه الأدباء وعشاق القصة فى كتابه "رجل" أديبا بارعا" وقصصيا قديرا على أن يخلع على القصة نسجا من الجمال وقوة من البراعة ، فلا تكاد تنتهى من قراءة إحدى قصصه حتى تشعر بميل شديد وقوة نزاعة إلى مراجعتها مرة ومرات .

فنهنئ المؤلف على هذا المجهود المشكور ، ونتمنى له النجاح المطرد فى ميادين الثقافة والأدب ".

* * *

وكتب على كامل بمجلة الجامعة 23/7/1937 :
" لا ريب أن الفترة التى تعبرها مصر فى معتركها الأدبى الحالى على أعظم جانب من الأهمية والخطورة ، وهى لذلك أجدر من غيرها وأحق بالانتباه والتيقظ ، فنحن الآن نتجه تدريجيا نحو خلق أدبى قومى صميم بعد أن مكثنا عشرات السنين فى الترجمة والنقل . وهذا الأدب القومى الجديد الذى تحتل القصة الصف الأول منه لا يعتمد على ماض وتراث سابقين "

" إن القارئ يشعر خلال السطور بشخصية المؤلف بارزة جلية ، وهى الصفة الأولى التى يجب أن يمتاز بها العمل الفنى سواء أكان قصصا أو شعرا أو موسيقى أو تصويرا أو غير ذلك ، كذلك كان المؤلف فى كتابيه دقيق التعبير ، بارع الوصف . ففى قصة " الرحيل " مثلا نراه يصف لنا إحساسات الشاب محمود وهو إلى جانب الفتاة التى أحبها ، فيجيد الوصف راسما العواطف المتضاربة التى تتنازع كلا من الفتى والفتاة بطريقه أرى أنه وفق فيها كثيرا .

وفى قصة " الأعمى " من كتابه الثانى " رجل " تراه يصف لنا شخصية الأعمى بطريقة تطغى فيها النزعة العلمية الحديثة فى معالجة القصة فى أوربا ، وهو ما يبشر المؤلف بمستقبل قصصى قد يحسد عليه إذا عرفنا أن هذه المميزات قد حصل عليها فى أول أعماله الأدبية " .

* * *

وسأكتفى بهذا القدر مما نشرته الصحف والمجلات عن رواية الرحيل ، والمجموعة القصصية رجل فى الثلاثينات من القرن العشرين ، وهدفى من وراء السرد السابق أن أبين مدى ما كانت عليه العناية الجدية بالنقد والتشجيع على جميع المستويات للثقافة والأدب ، وما لاقته أعمال البدوى الأدبية الأولى من احتفاء وتكريم .
================================

الفصل الثالث ـ على رصيف القهوة

* مقهى رجينا والأديب محمود تيمور
* قهوة المسيرى بدمنهور
* قهوة امبريال بالإسكندرية
* قهوة بور فؤاد

مقهى رجينا

مقهى رجينا والأديب محمود تيمور



فى أقصى اليسار محمود البدوى ويليه محمود تيمور وفى الخلف يوسف السباعى




يقول البدوى .. " التقيت بمحمود تيمور لأول مرة فى مقهى " رجينا " بشارع عماد الدين .. وهو المكان المختار للأدباء والفنانين . وكان يجلس معه أمين حسونة وزكى طليمات .. وكنت أجلس مع صحبة من الأدباء الشبان فى زاوية من المقهى بالناحية الغربية .

ومقهى "رجينا" يقع فى موقع جميل من الشارع على يمين المتجه إلى محطة مصر .. وقبل عمارات الخديو بخطوات قليلة .. وكان بديع التنسيق نظيفا تغطى موائده المفارش وتتخلل أركانه أصص الزهور ..

وكنا لا نتخلف عنه ليلة واحدة لجماله وطراوة هوائه وعلى الأخص فى الصيف فهو يستقبل الهواء من بحرى بسخاء ونعومة .

وكانت الحركة الأدبية نشطة بل فى أوج نشاطها بما ينشر فى المجلات والصحف والكتب من فنون الأدب .

وذات ليلة ونحن فى مجلسنا المعتاد بالمقهى .. رأيت إنسانا أنيق الملبس والمظهر يتحرك نحونا .. وقال طه عبد الباقى بسرور .. ينبهنا ..
ــ تيمور بك .
ووقفنا وسلم علينا جميعا .

وقال فى صوت هادئ واضح النبرات :
ــ أهنئك على كتابك " رجل " . (وكنت قد أهديته له) ..
وأخص بالذكر قصة الأعمى .. أعجبتنى للغاية .

وشكرناه ووقفنا بجانبه وكنا ثلاثة أكثر من دقيقتين نتحدث
فى مجال الأدب .. ثم بارحنا ورجع إلى مكانه ..

وسألت طه فى استغراب :
ــ الرجل النبيل تحرك من مكانه بكل شهرته الأدبية ومكانته ليحيى شابا صغيرا .. ما أنبل هذا وأعظمه .

فقال طه معقبا :
ــ الرجل العظيم هو أكثر الناس تواضعا .. ولو رجعت لسير العظماء فى التاريخ ما وجدت هذا يخل بمقدار شعره...
==============

قهوة المسيرى بدمنهور

على رصيف قهوة المسيرى

تلقى محمود البدوى رسائل عديدة تبعث على الدهشة بعد صدور مجموعته القصصية " رجل " وبعضها .. كما يقول ـ " جاء من الأرجنتين ومن المهجر الأمريكى " .

وقد عجبت لهذا الاحتفاء ، والكتاب صغير الحجم ، ومؤلفه أقل منه حجما ، فى الجو الأدبى المصرى العامر فى ذلك الحين بالأفذاذ والفحول فى كل ضروب الأدب وفنونه .

وكان من بين هذه الرسائل رسالة من الأستاذ عبد المعطى المسيرى صاحب قهوة المسيرى بدمنهور .. ومن الأستاذ أمين غراب .

وكان غراب أكثر حرية وحركة لأن المسيرى يدير القهوة إلى منتصف الليل .. وغراب طليق يتردد على القاهرة لنشر قصصه ، أو لمقابلة الممثلين لأمر يتصل بعمله فى دمنهور كممثل على المسرح .

وكتب إلىّ رسالة بموعد حضوره ، واتفقنا على اللقاء فى مقهى بور فؤاد.. وانتظرته ولفراسته وقوة ملاحظته عرفنى من بين الجالسين جميعا ، دون أن يسأل شخصا ، أو أن أحمل دلالة للتعارف .

جلس فى مرح وكان متأنقا فى لبسه ، وقادما على التو من دمنهور التى كانت فى ذلك الوقت مركز نشاط أدبى كبير .. وكانت قهوة المسيرى وعلى رأسها "عبد المعطى" تجمع عشاق الأدب بكل ألوانه .

وقال لى " غراب " إنه راجع إلى دمنهور فى نفس اليوم .. بعد أن يقابل أحد الممثلين فى مقهى "نجيب الريحانى" للاتفاق على الفرقة التى ستقوم بالتمثيل على مسرح البلدية فى دمنهور يوم الخميس المقبل .

وافترقنا وظللنا نتراسل .. إلى أن أخبرته بأنى مسافر إلى الإسكندرية فى يوم كذا .. بأول قطار يتحرك فى الصباح .. وعند عودتى سأمر على دمنهور.. وألاقيه هو والأستاذ عبد المعطى فى قهوة " المسيرى " . وفى محطة دمنهور فوجئت به ، هو والأستاذ عبد المعطى على رصيف المحطة ، ولمحانى من شباك القطار وصعدا وأنزلا حقيبتى من فوق الرف ، كما أنزلانى بالقوة .

وكان المنظر مضحكا أمام الركاب .. وأنا أقاوم وأبين عذرى وهما يصران على الجذب والشد والدفع إلى سلم العربة ، دون سماع لأى عذر .

ووجدت نفسى على الرصيف ، وأنا أضحك وتحرك القطار .
وذهبنا إلى مقهى "المسيرى" وترك عبد المعطى إدارة القهوة لأحد عماله ، وجلس معنا يرحب ، ويقدم التحيات .. وسرعان ما جاء إلى القهوة أكثر من أديب دمنهورى .. وكانت دمنهور فى ذلك الوقت خلية نحل نشطة دون سائر المديريات .. وكانوا جميعا يتعاونون فى صفاء ومودة وإخلاص على طبع الكتب وإصدارها إحياء للأدب وانتعاشة دوما .. ولم تكن هناك شللية ولا ماركسية ولا تقدمية ولا رجعية ، ولا كل هذا البلاء الأزرق الذى زحف على البلاد ، وظهر فى جو الأدب فلبد سماءه الصافية بالغيوم وقتل روح الفن المعيار الأول للأدب الصادق .

ومن حقل دمنهور الأدبى الزاهر .. خرج فى نضارة ــ على ما أعرف وأذكر دون ترتيب للأسماء الأساتذة ــ أحمد محرم .. وعبد المنعم الخضرى.. ومأمون غريب.. وعبد الحليم عبد الله .. وأمين غراب .. ونظمى لوقا .. وعبد المعطى المسيرى .. ومحمد صدقى .. والنعناعى .. وغير هؤلاء ممن لا أعرف .
جلست فى قهوة المسيرى .. مع أدباء دمنهور الشبان إلى ما بعد الغروب.. نتحدث عن أساتذتنا الذين سبقونا وعلمونا وكانوا فخرا لمصر .. وأصبحوا فخرا لمصر فى كل الأزمان والعصور ــ المنفلوطى والبرقوقى .. والزيات .. وأمين الخولى .. وطه حسين .. وتوفيق الحكيم .. والعقاد .. والمازنى .. وأحمد أمين .. وعبد العزيز البشرى .. وصادق الرافعى .. وسلامة موسى .. وزكى مبارك .. ومحمد حسين هيكل .. وبيرم .. وتيمور .. وحسين فوزى .. وإسماعيل مظهر . ثم الشعراء .. شوقى .. وحافظ .. وعزيز أباظة .. وأحمد محرم .. وعبد الرحمن شكرى .. ثم من فتح الطريق للقصة والرواية .. ومهد السبيل لغيره فى براعة فنية ، ونقد لاذع للمجتمع .. محمد المويلحى .. أديب الأدباء .

دار حديثنا فى القهوة عن كل هؤلاء وغيرهم ، ثم انتقلنا إلى بيت عبد المعطى الذى قدم عشاء متنوع الطباق .. وبعدها خرجنا نتجول فى المدينة . وأبديت لغراب .. رغبتى فى أن نحجز غرفة فى أى فندق لأستريح بحريتى .. لأنى لا أحب الضيافة فى البيوت ..

وقال لى أمين :
ــ لا يوجد فى المدينة إلا فندق واحد ..
ــ لنذهب إليه ..

واتخذنا طريقنا إلى الفندق .. ولما صعدنا لنشاهد الغرف وكانت جميعها خالية .. صدمنا بما وجدنا فيها من جو خانق وقذارة .. فنزلنا سريعا .. وقد أخذت رءوسهم تفكر على التو فى المكان الذى أقضى فيه الليل .. بعد أن انقطعت كل سبل المواصلات إلى الإسكندرية ..

وساروا بى حتى خرجنا من المدينة ، وأصبحنا فى المزارع ، وشعرت بطراوة الجو ولينه وبهجة شعاع القمر .. وهو فى قمة زهوه وتألقه .

جلسنا على العشب فى شبه دائرة ، وكنا أكثر من عشرة .. وكل منا يتحدث عن المدن التى زارها فى مصر .. والتجارب التى مر بها فى حياته ، وهو يتنقل فى هذه المدن .. ووجدنا قصورًا أخجلنا .. فبعضنا لم يكن قد بعد عن موطنه مسافة فرسخ .. والغالبية لم تكن قد خرجت من مدينة دمنهور .. فمن أين تأتى التجارب .. ويزخر الرأس بالأفكار ..؟ فليسافر الأديب وليسافر ..

ونهضنا ودخلنا فى المدينة مرة أخرى .. وعلى رأس شارع صغير .. سلمت على أدباء دمنهور .. وبقى معى عبد المعطى وغراب .. وأنزلانى ضيفا فى مضيفة رجل كريم لم أعرف إسمه إلى اليوم .

وفى الصباح لمحت ظل فتاة ناضرة البياض ، قادمة من الخارج .. ووضعت على المائدة قدحًا كبيرا من اللبن وفطيرا .. ولم أشاهد منها إلا ذيل ثوبها وقد أعجبت لسواده .

وفى الضحى .. ودعت أدباء دمنهور جميعا .. وسافرت إلى الإسكندرية .. وكنت أحب الإسكندرية كثيرا فى ذلك الوقت لجمالها ونظافتها ، وقلة سكانها .. ولأنها صورة ناضرة من المدن الأوربية التى شاهدتها فى رحلتى السابقة وفتنت بها .

* * *

تكررت زيارات محمود البدوى إلى دمنهور والجلوس مع الأدباء فى مقهى المسيرى ويقول .. "كانت قهوة المسيرى منتدى أدبيا عامرا وحافلا على الدوام بالأدباء من القاهرة والإسكندرية ودمنهور ، وكان عبد المعطى قطب الدائرة والخلية منتجة ونشطة وتظهر آثارها .. فى كتاب يطبع فى دمنهور أو الإسكندرية لقربها من دمنهور .. كان المجتمع الأدبى منتجا ومفيدا .. ولم تكن اجتماعات القهوة تنتهى إلى مناقشات بيزنطية تذهب مع الريح ..

* * *

كان أدباء مقهى المسيرى يمسكون بتلابيب الشباب من الأدباء ويتحدثون عن فنهم وأثرهم فى الحياة .. ويقول الأستاذ عبد المعطى المسيرى فى مقالة المنشور بجريدة الزمان 16/11/1950 ".. وجاء دور محمود البدوى أو كما نسميه فى دمنهور محمود تشيكوف أو أنطون البدوى إشارة إلى تلك الصلة الوثيقة والتشابه العظيم بينه وأنطون تشيكوف فى بساطته وعرضه وتحليله ، ثم تعبيرا عن إعجابنا به وتقديرنا له منذ أن قرأنا أولى أعماله الأدبية قصة "الأعمى" التى فتنتنا وتجاوبت مع نفوسنا ، فلم نقنع بالتجاوب المألوف بين الكاتب الفذ والقارئ الناقد وإنما أردناها صداقة ومودة ، فكان لنا ما نريد ـ ظفرنا من صداقته بهذا الصفاء الذى يحلم به المرء وينشده ، والوفاء الذى تحن إليه النفس وتستجم فى ظله الوريف ، ثم ظفرنا بعد ذلك بالفائدة بعد المتعة، فهو الذى وضع أيدينا على القصص الروسى الخالد ، ابن الطبيعة والزوج الأبدى .. ثم ما زال يلح على المازنى ويظهر إعجابه به حتى أنشأ للمازنى مدرسة فى دمنهور .

وضحكنا طويلا عندما ذكرنا محاولته اللطيفة فى القيام بتأسيس دار للنشر باسم "مكتبة الجيب " التى أصدر عن طريقها بعض كتبه " .
============
على رصيف قهوة المسيرى

تلقى محمود البدوى رسائل عديدة تبعث على الدهشة بعد صدور مجموعته القصصية " رجل " وبعضها .. كما يقول ـ " جاء من الأرجنتين ومن المهجر الأمريكى " .

وقد عجبت لهذا الاحتفاء ، والكتاب صغير الحجم ، ومؤلفه أقل منه حجما ، فى الجو الأدبى المصرى العامر فى ذلك الحين بالأفذاذ والفحول فى كل ضروب الأدب وفنونه .

وكان من بين هذه الرسائل رسالة من الأستاذ عبد المعطى المسيرى صاحب قهوة المسيرى بدمنهور .. ومن الأستاذ أمين غراب .

وكان غراب أكثر حرية وحركة لأن المسيرى يدير القهوة إلى منتصف الليل .. وغراب طليق يتردد على القاهرة لنشر قصصه ، أو لمقابلة الممثلين لأمر يتصل بعمله فى دمنهور كممثل على المسرح .

وكتب إلىّ رسالة بموعد حضوره ، واتفقنا على اللقاء فى مقهى بور فؤاد.. وانتظرته ولفراسته وقوة ملاحظته عرفنى من بين الجالسين جميعا ، دون أن يسأل شخصا ، أو أن أحمل دلالة للتعارف .

جلس فى مرح وكان متأنقا فى لبسه ، وقادما على التو من دمنهور التى كانت فى ذلك الوقت مركز نشاط أدبى كبير .. وكانت قهوة المسيرى وعلى رأسها "عبد المعطى" تجمع عشاق الأدب بكل ألوانه .

وقال لى " غراب " إنه راجع إلى دمنهور فى نفس اليوم .. بعد أن يقابل أحد الممثلين فى مقهى "نجيب الريحانى" للاتفاق على الفرقة التى ستقوم بالتمثيل على مسرح البلدية فى دمنهور يوم الخميس المقبل .

وافترقنا وظللنا نتراسل .. إلى أن أخبرته بأنى مسافر إلى الإسكندرية فى يوم كذا .. بأول قطار يتحرك فى الصباح .. وعند عودتى سأمر على دمنهور.. وألاقيه هو والأستاذ عبد المعطى فى قهوة " المسيرى " . وفى محطة دمنهور فوجئت به ، هو والأستاذ عبد المعطى على رصيف المحطة ، ولمحانى من شباك القطار وصعدا وأنزلا حقيبتى من فوق الرف ، كما أنزلانى بالقوة .

وكان المنظر مضحكا أمام الركاب .. وأنا أقاوم وأبين عذرى وهما يصران على الجذب والشد والدفع إلى سلم العربة ، دون سماع لأى عذر .

ووجدت نفسى على الرصيف ، وأنا أضحك وتحرك القطار .
وذهبنا إلى مقهى "المسيرى" وترك عبد المعطى إدارة القهوة لأحد عماله ، وجلس معنا يرحب ، ويقدم التحيات .. وسرعان ما جاء إلى القهوة أكثر من أديب دمنهورى .. وكانت دمنهور فى ذلك الوقت خلية نحل نشطة دون سائر المديريات .. وكانوا جميعا يتعاونون فى صفاء ومودة وإخلاص على طبع الكتب وإصدارها إحياء للأدب وانتعاشة دوما .. ولم تكن هناك شللية ولا ماركسية ولا تقدمية ولا رجعية ، ولا كل هذا البلاء الأزرق الذى زحف على البلاد ، وظهر فى جو الأدب فلبد سماءه الصافية بالغيوم وقتل روح الفن المعيار الأول للأدب الصادق .

ومن حقل دمنهور الأدبى الزاهر .. خرج فى نضارة ــ على ما أعرف وأذكر دون ترتيب للأسماء الأساتذة ــ أحمد محرم .. وعبد المنعم الخضرى.. ومأمون غريب.. وعبد الحليم عبد الله .. وأمين غراب .. ونظمى لوقا .. وعبد المعطى المسيرى .. ومحمد صدقى .. والنعناعى .. وغير هؤلاء ممن لا أعرف .
جلست فى قهوة المسيرى .. مع أدباء دمنهور الشبان إلى ما بعد الغروب.. نتحدث عن أساتذتنا الذين سبقونا وعلمونا وكانوا فخرا لمصر .. وأصبحوا فخرا لمصر فى كل الأزمان والعصور ــ المنفلوطى والبرقوقى .. والزيات .. وأمين الخولى .. وطه حسين .. وتوفيق الحكيم .. والعقاد .. والمازنى .. وأحمد أمين .. وعبد العزيز البشرى .. وصادق الرافعى .. وسلامة موسى .. وزكى مبارك .. ومحمد حسين هيكل .. وبيرم .. وتيمور .. وحسين فوزى .. وإسماعيل مظهر . ثم الشعراء .. شوقى .. وحافظ .. وعزيز أباظة .. وأحمد محرم .. وعبد الرحمن شكرى .. ثم من فتح الطريق للقصة والرواية .. ومهد السبيل لغيره فى براعة فنية ، ونقد لاذع للمجتمع .. محمد المويلحى .. أديب الأدباء .

دار حديثنا فى القهوة عن كل هؤلاء وغيرهم ، ثم انتقلنا إلى بيت عبد المعطى الذى قدم عشاء متنوع الطباق .. وبعدها خرجنا نتجول فى المدينة . وأبديت لغراب .. رغبتى فى أن نحجز غرفة فى أى فندق لأستريح بحريتى .. لأنى لا أحب الضيافة فى البيوت ..

وقال لى أمين :
ــ لا يوجد فى المدينة إلا فندق واحد ..
ــ لنذهب إليه ..

واتخذنا طريقنا إلى الفندق .. ولما صعدنا لنشاهد الغرف وكانت جميعها خالية .. صدمنا بما وجدنا فيها من جو خانق وقذارة .. فنزلنا سريعا .. وقد أخذت رءوسهم تفكر على التو فى المكان الذى أقضى فيه الليل .. بعد أن انقطعت كل سبل المواصلات إلى الإسكندرية ..

وساروا بى حتى خرجنا من المدينة ، وأصبحنا فى المزارع ، وشعرت بطراوة الجو ولينه وبهجة شعاع القمر .. وهو فى قمة زهوه وتألقه .

جلسنا على العشب فى شبه دائرة ، وكنا أكثر من عشرة .. وكل منا يتحدث عن المدن التى زارها فى مصر .. والتجارب التى مر بها فى حياته ، وهو يتنقل فى هذه المدن .. ووجدنا قصورًا أخجلنا .. فبعضنا لم يكن قد بعد عن موطنه مسافة فرسخ .. والغالبية لم تكن قد خرجت من مدينة دمنهور .. فمن أين تأتى التجارب .. ويزخر الرأس بالأفكار ..؟ فليسافر الأديب وليسافر ..

ونهضنا ودخلنا فى المدينة مرة أخرى .. وعلى رأس شارع صغير .. سلمت على أدباء دمنهور .. وبقى معى عبد المعطى وغراب .. وأنزلانى ضيفا فى مضيفة رجل كريم لم أعرف إسمه إلى اليوم .

وفى الصباح لمحت ظل فتاة ناضرة البياض ، قادمة من الخارج .. ووضعت على المائدة قدحًا كبيرا من اللبن وفطيرا .. ولم أشاهد منها إلا ذيل ثوبها وقد أعجبت لسواده .

وفى الضحى .. ودعت أدباء دمنهور جميعا .. وسافرت إلى الإسكندرية .. وكنت أحب الإسكندرية كثيرا فى ذلك الوقت لجمالها ونظافتها ، وقلة سكانها .. ولأنها صورة ناضرة من المدن الأوربية التى شاهدتها فى رحلتى السابقة وفتنت بها .

* * *

تكررت زيارات محمود البدوى إلى دمنهور والجلوس مع الأدباء فى مقهى المسيرى ويقول .. "كانت قهوة المسيرى منتدى أدبيا عامرا وحافلا على الدوام بالأدباء من القاهرة والإسكندرية ودمنهور ، وكان عبد المعطى قطب الدائرة والخلية منتجة ونشطة وتظهر آثارها .. فى كتاب يطبع فى دمنهور أو الإسكندرية لقربها من دمنهور .. كان المجتمع الأدبى منتجا ومفيدا .. ولم تكن اجتماعات القهوة تنتهى إلى مناقشات بيزنطية تذهب مع الريح ..

* * *

كان أدباء مقهى المسيرى يمسكون بتلابيب الشباب من الأدباء ويتحدثون عن فنهم وأثرهم فى الحياة .. ويقول الأستاذ عبد المعطى المسيرى فى مقالة المنشور بجريدة الزمان 16/11/1950 ".. وجاء دور محمود البدوى أو كما نسميه فى دمنهور محمود تشيكوف أو أنطون البدوى إشارة إلى تلك الصلة الوثيقة والتشابه العظيم بينه وأنطون تشيكوف فى بساطته وعرضه وتحليله ، ثم تعبيرا عن إعجابنا به وتقديرنا له منذ أن قرأنا أولى أعماله الأدبية قصة "الأعمى" التى فتنتنا وتجاوبت مع نفوسنا ، فلم نقنع بالتجاوب المألوف بين الكاتب الفذ والقارئ الناقد وإنما أردناها صداقة ومودة ، فكان لنا ما نريد ـ ظفرنا من صداقته بهذا الصفاء الذى يحلم به المرء وينشده ، والوفاء الذى تحن إليه النفس وتستجم فى ظله الوريف ، ثم ظفرنا بعد ذلك بالفائدة بعد المتعة، فهو الذى وضع أيدينا على القصص الروسى الخالد ، ابن الطبيعة والزوج الأبدى .. ثم ما زال يلح على المازنى ويظهر إعجابه به حتى أنشأ للمازنى مدرسة فى دمنهور .

وضحكنا طويلا عندما ذكرنا محاولته اللطيفة فى القيام بتأسيس دار للنشر باسم "مكتبة الجيب " التى أصدر عن طريقها بعض كتبه " .
============

قهوة مبريال بالإسكندرية

قهوة إمبريال بالإسكندرية

كان محمود البدوى فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين يحب الإسكندرية كثيرا لجمالها ونظافتها وقلة سكانها ، وفتن بها كثيرا ، ويعشق النزول فى مياهها ، فقد كان يحب السباحة والغوص تحت الماء منذ كان طفلا صغيرا فى القرية .

ويقول .. " كان الأستاذ غراب يتردد كثيرا على الإسكندرية لقربها من دمنهور والمسافة قصيرة بكل سبل المواصلات السهلة .. فكن يحضر فى الضحى ويعود إلى دمنهور آخر الليل .

وذات ليلة التقيت به مصادفة فى محطة الرمل بالإسكندرية وكان معه الأستاذ صلاح ذهنى .. وكان الاثنان ينتظران أديبا من الإسكندرية فى مقهى إمبريال ، وقبل مجىء هذا الأديب عرفانى بأنه يتوق إلى معرفة المستشرقين ويعتز بصداقتهم كالأستاذ تيمور ليخرج أدبه من الدائرة المحلية إلى ما هو أوسع آفاقا وأرحب .

وقال أمين ضاحكا :
وستلقاه أنت الليلة على أنك مستشرق .. لأنه ما رآك من قبل ولا يعرفك.. وشعرك الأبيض الطويل سيجعله لا يشك قط .. ولا تعترض فنحن نريد أن نقضى ليلة ضاحكة .. وعلى فكرة إنه يكتب القصة أحسن منك .. وسترى..

وكان شعرى طويلا منفوشا .. وبدلتى من قطعتين وكل قطعة بلون .. ومن طراز إنجليزى خالص .. ولا كواء ، ولا تنسيق ولا منديل يطل من الجيب . ولا أناقة فى المظهر جميعه .. وبيدى حقيبة مليئة بالمذكرات والأقلام .. وسأتكلم لمدة ساعة أو ساعتين بالعربية الفصحى .

وكنا قد ضحكنا كثيرا قبل المشهد ، فلما تقابلنا مع الأستاذ "سعيد" كان الموقف كله جادًا ، ولا يمكن لمخلوق أن يكتشف فيه مظهر التمثيل .

رحب بنا الأستاذ "سعيد" وكان الترحيب بى مضاعفا ، ولاحظت أنه هادئ ، وديع ، وكريم الخلق إلى حد بعيد ، فكدت أندم ، وأكشف أوراقى لولا نظرة صارمة من صلاح ذهنى أرجعتنى إلى ما اتفقنا عليه .

وأخذت أحادثه ، وأثنى على قصصه ، وشكر الأستاذ تيمور الذى كان أول من دلنى عليه بأن بعث إلى بمجموعته القصصية .. وكم عرفنى تيمور بأدباء وقصاصين ، وأرسل إلىَّ كتبهم بالبريد دون أن يعرضوا هم .. وبذلك استطعت أن أكون فكرة شاملة عن الأدب المصرى .

وابتهج الأستاذ "سعيد" عندما سمع هذا وطار من الفرح .. وعشانا فى نفس المكان .

ولكن أمين قال له بالعامية التى لا أعرفها .
ــ الأكلة دى ما تنفعش .. ولازم تعزمه فى بيتك .. لأنه عاوز يشوف بيت مصرى .. واحنا مالناش بيوت هنا فى الإسكندرية ..

فرد سريعا :
ــ طيب فى البيت يا أخى .. بكره الغدا فى البيت .
وترجموا لى الحديث بالعربية الفصحى .. فاعتذرت وقلت :
ــ إن ميعادى مع تيمور بك غدا فى القاهرة .. وقد عرفته فى رسالتى بيوم وساعة الوصول ..

فقال غراب سريعا :
ــ سنرسل له برقية ونعرفه بأنك ستصل إلى القاهرة بعد غد فى نفس الميعاد .
واسترحنا إلى هذا المخرج .

وفى اليوم التالى كنا فى بيته .. وكان بيته من الفخامة إلى درجة أذهلتنى وجعلتنى أعجب وأتساءل كيف يخرج من هذا العز أديب ..؟ وما هى المشاكل التى يمكن أن تحرك وجدانه ..؟

وكان يتحدث بالفرنسية مع أهل بيته .. وقد شعرت بالخجل لأنه اندفع فى حماس إلى وليمة فاخرة ..

وبعد أن فرغنا من الطعام .. وضعت أمامنا صحون ملونة صغيرة ممتلئة بالماء وفى كل صحن ورده .. فتعجل أمين ووضع يده فى الصحن حتى لا نتصور أنه خشاف ونرفعه إلى فمنا .. وكان بارعا وسريع الخاطر فى هذه الحركة .
وفى اليوم الذى حددته لسفرى إلى القاهرة لمقابلة الأستاذ تيمور ، جاء الأستاذ سعيد يودعنى فى محطة "مصر" ، وكان يرافقه غراب وصلاح .

وسألنى " سعيد " بأدب قبل تحرك القطار :
ــ هل ستقابل جميع الأدباء فى القاهرة ..
ــ بالطبع .. ولهذا جئت من بلادى ..
ــ سلامى إذن إلى أستاذنا .. الزيات وأرجو أن تحرص على مقابلة .. توفيق الحكيم .. وإبراهيم المصرى .. وعبد الرحمن الشرقاوى .. وثروت أباظه .. ويحيى حقى .. ونجيب محفوظ .. وعبد الحليم عبد الله .. ويوسف جوهر .. وسعد مكاوى .. ومحمود البدوى إذا وجدته ..

فقال صلاح ذهنى وهو ينفجر من الضحك :
ــ محمود البدوى ــ ما هو واقف قدامك فى القطر يا مغفل .. وضحكنا .. وضحكنا .. وأصبح هذا الأديب الإسكندرى من أعز أصدقائى ..
================

قهوة بور فؤاد

قهوة بور فؤاد

حينما كان البدوى ينهى عمله فى المصلحة الساعة الثانية بعد الظهر ، يذهب إلى البيت . وفى المساء يذهب إلى مقهى بورفؤاد بشارع فؤاد يجتمع مع صحبة طيبة من الأدباء الشبان المتفتحين للحياة والأدب .. يقلبون فى المجلات والكتب التى كانت تصدر فى ذلك الوقت .

ويقول : " وكان يحيى حقى .. يجىء فى الإجازات إلى هذه القهوة ، وقد رأيته لأول مرة فألفيته وديعا رضيا قليل الكلام .

وفى القهوة انضم إلينا طبيب الأسنان الدكتور رمزى مفتاح والمرحوم غريب والشاعر أحمد فتحى مرسى .. ورفيقه فى زمالة الحقوق والشعر الشاعر إبراهيم طلعت .. كلما جاء من الإسكندرية لعمل فى القاهرة .

وكان الدكتور رمزى يحضر بعد انتهاء عمله فى العيادة .. وحديثنا يدور عن الكتب الجديدة .. وكان الكثير منها للعقاد والمازنى .. وكان الدكتور رمزى .. وغريب لا يحبان العقاد كشاعر وينتقصان منه .. وأنا وهلال وفتحى مرسى وطلعت .. ندافع عنه بحرارة ككاتب وشاعر من أفذاذنا ومفاخرنا .. وقال لى هلال .. » إن غريب يكره العقاد .. لأنه اشتغل فى جريدة فيها العقاد .. وكان العقاد السبب فى نقص أجره الشهرى .. فحملها له وظل يحملها » .

و" كان غريب الذى درس فى الأزهر .. متفقا فى المشارب والذوق الأدبى واختيار أروع القصص .. مع الدكتور رمزى الذى درس فى طب الأسنان بمصر .. وسافر كثيرا إلى لندن .. وليس فى هذا غرابة .. فالذوق السليم يأتى من الفطرة .. وبالسليقة ..

وكلما كان الإنسان عميق التفكير .. بعُد نظره وحسن اختياره ، ولهذا التوافق فى المشارب ، كان الاثنان لا يفترقان إلا نادرًا ، وكأنهما يلبسان ثوبا واحدًا .. وغريب مسلم .. ورمزى مسيحى .. ولكن الفنان الأصيل بطبعه .. لا يخطر على باله التعصب الدينى ولا يفكر فيه قط .. ولا يحسب حسابا لفارق الدين ..

أما المتعصب فساقط من المجموع .. ومحتقر من زمرة الأدباء وزمرة الشعراء والناس أجمعين " .
=================================


الفصل الرابع ـ الكتابة فى الصحف والمجلات

الكتابة فى المجلات والصحف

* م. صوت الإسلام .
* م. الرسالة .
* م. العروسة .
* م. العصور .
* م. كليوباترا .
* ص. أخبار اليوم .
* ص. الزمان .
* نادى القصة .
* مجمع اللغة العربية .
* ص. الجمهورية .
* م. الجيل .
* ص. الشعب .
==============

مجلة صوت الإسلام

مجلة صوت الإسلام

حينما جاء محمد على غريب من مدينة أسيوط إلى القاهرة وعمل فى مطبعة الرسول بباب الخلق ، غاب فى زحمة المدينة ويتقدم وأخذ اسمه يلمع ، فكان يحرر فى معظم المجلات الأسبوعية التى كانت تظهر فى ذلك العهد ، وأصدر مجلة صوت الإسلام واتخذ لها إدارة مشتركة مع مجلة الراديو عام 1935 .

وأراد أن يجدد فى المجلة فطلب من البدوى قصة دينية فكتب له قصة بعنوان "دمعة" ونشرت بالعدد السابع فى 11/5/1935 ، وبعدها كتب قصة عن "عبد الرحمن القس" ونشرت بالعدد الثامن فى 18/5/1935 . وبالعدد التاسع نشرت للبدوى قصة كتبها وسماها الأعمى ، وعن ظروف كتابة هذه القصة وكيف نبتت فى رأسه فكرة كتابتها ..

يقول البدوى " كنت أعمل فى ميدان لاظوغلى .. وأسكن فى الحلمية الجديدة .. وأقطع المسافة بين هاتين الجهتين بأقصر الطرق .. فأخرج من ميدان لاظوغلى وأمشى فى حوار متعرجة .. حارة عمر شاه .. حارة قواوير.. حارة .. وهكذا حتى أخرج إلى درب الجماميز .. ومنه أتجه إلى الحلمية الجديدة .. وذات يوم فى ساعة العصر .. سمعت الأذان .. وأنا فى قلب هذه الحوارى .. وجاء فى مواجهتى أعمى .. ذكرنى بأعمى فى قريتى كان يعمل على بئر المسجد "ملا" كما كان مؤذنا .. والمسجد كنت أدرس فيه فى الكتاب وأنا صبى صغير وأصلى فيه الفجر .. وأرى فيه النساء فى ساعة الفجر يملأن الجرار من بئر المسجد قبل أن يطلع النور ..

عادت هذه الصورة إلى باصرتى .. وابتدأ ذهنى يعمل وأنا فى هذه الحوارى رائحا غاديا كل يوم .. وبعد أسبوعين اكتملت القصة فى ذهنى وكتبتها " ..
===========

مجلة الرسالة


مجلة الرسالة

حمل محمود البدوى المجموعة القصصية "رجل" عام 1936 وذهب إلى مجلة الرسالة لينشر عنها إعلانا صغيرا بالمجلة .. ويقول : "وتناول أستاذى الزيات الكتاب الصغير فى يده .. وقلبه .. فلما وقع نظره على هذه القصة " الأعمى " .. سألنى عنها .. ووجد فيها جديدا ، وطلب منى أن ينشرها فى الرسالة .. ونشرها فعلا على عددين ..

وقد لمست صفات هذا الرجل الكريم ونبله .. لما حدثنى بعد ذلك عن كل المكالمات التليفونية التى تلقاها إعجابا بهذه القصة ، وشجعنى بهذا وفتح قلبى على مواصلة الطريق .. فأخذت أتابع النشر فى الرسالة ولولاه ما واصلت الكتابة .. ولا كتبت حرفا .. ولأصابنى العجز والضيق فى أول الطريق ..

وكانت رسالته رحمه الله رسالة الرسالات ، وقد عجزت الدولة من بعده بكل إمكانياتها أن تخرج مثلها ، فالعمل الأدبى إخلاص وتضحية ولا يزيد ولا ينقص بعدد الأشخاص الذين يتولونه وكان هذا الرجل عظيما جدًا ، وقد تعلمت منه أشياء كثيرة .. لعل أهمها الصبر والجلد فى العمل .

* * *

ويقول البدوى " وكانت بداية اتصالى به ومعرفتى به عن قرب وعلى الأخص بعد أن انتقل من شارع حسن الأكبر إلى ميدان العتبة فوق محل الفرنوانى ، وأخذ فى إصدار مجلة الرواية بجانب الرسالة.. .
فكان يصدر المجلتين معا ويتولى وحده تصحيحها ومراجعة البروفات وكل عمل الإدارة والمطبعة والإعلانات .

وزرته ذات مساء فوجدته يراجع البروفات على الفصل الأول من يوميات نائب فى الأرياف لأستاذنا توفيق الحكيم .. وكان فخورا بهذه الرواية إلى أقصى مدى ، وأشفقت على تعبه وهو يقرأ النص ويراجع حروف المطبعة معا، فاستأذنته أن أعينه .. وجلست أمامه .. وأخذت أقرأ النص بصوت عال ــ وأخاف الخطأ ــ وهو يراجع على البروفة المطبوعة ويصحح بدقة متناهية وصبر عجيب .

ومر الوقت بنا حتى ولى نصف الليل ، وما شاهدته فى أثناء هذه الجلسة الطويلة دخن سيجارة ولا شرب فنجانا من القهوة ..

وكان من أصدقائه الذين أراهم فى المجلة على فترات متقاربة الدكتور توفيق يونس والشيخ زناتى والأستاذ محمود الخفيف .

وكان هناك ثالوث منا نحن الشباب يكتب فى المجلة ويعتز بها ويتردد عليها يوميا فى فترة ما ، الدكتور حسن حبشى والأستاذ فتحى مرسى وأنا ، نكتب المقال والقصة والشعر . وانضم إلينا رابع الأستاذ .. إبراهيم طلعت .. الشاعر الثائر .. وكان قد أخذ ينشر قصائده .. وشاهدت بعد ذلك فى المجلة من جاء ليعاون أستاذنا الزيات فى عمله الذى اتسع ، وكان منهم الصديق الكريم الأستاذ عباس خضر وواصلت النشر على فترات متقاربة ومتباعدة تبعا لظروف الحياة وأثرها فى نفس الكاتب .

وبعد النشر فى مجلة الرسالة بدأت أنشر فى معظم الصحف والمجلات المصرية تقريبا الأهرام والشعب والجمهورية والمساء وأخبار اليوم والجيل وآخر ساعة ولم أتوقف عن النشر إطلاقا .. ولم أشعر باليأس إطلاقا .
============

مجلة العروسة


مجلة العروسة

فى بداية عام 1938 كان البدوى جالسا فى قهوة بور فؤاد مع الأديب هلال شتا ويعمل فى مجلس النواب ، والشاعرين إبراهيم طلعت وفتحى مرسى وهما من الصحبة المختارة له فى مجلة الرسالة .. وفى عقولهم أحلام الصبا والتفتح والخلود الأدبى ، وكان الجو فى مصر يوحى كله بالتفتح الأدبى .

ويقول :
" لا أدرى كيف وقع علينا الأخ " طلبة " الاسم مستعار .. ومن أى كوكب هبط .. وكان الأخ طلبه يعمل مندوبا للإعلانات فى الصحف المصرية وكان كثير الحركة دؤوبا متنقلا يقع على فريسته من أول جولة .. وكنا فى مجلسنا فى مقهى بور فؤاد .. عندما جاءنا ذات مساء وقال لنا إن دار اللطائف قررت إعادة إصدار مجلة العروسة بعد إحتجابها الطويل وعهدت إليه هو أن يختار هيئة التحرير ..

وقد اختارنا وهو على يقين بأننا لن نرفض هذه الفرصة الذهبية .. وعودتها محررة بأقلامنا ستكون إنتصارًا لنا ونحن فى بواكير الشباب ، ويعرف أننا جميعا من أدباء الشباب المشتعلين حماسة للكتابة والنشر .. وفينا شاعران .. فتحى مرسى .. وإبراهيم طلعت .. وأديبان .. هلال شتا وأنا ..

ووافقنا نحن الأربعة على العرض من أول جلسة فى المقهى ولم نحدد الأجر.. ولكنا اشترطنا شرطا قاطعا وهو أن لا يتدخل أحد فى الدار مهما تكن صفته فى تحرير المجلة .. ووافقوا على ذلك .

وفى مساء اليوم التالى إجتمعنا وذهبنا إلى الدار .. وكانت فى عمارة بباب اللوق بجوار محطة حلوان .. وصعدنا إلى مقر المجلة .

وكان المقر جميل التنسيق ونظيفا والحجرات واسعة والمكاتب أنيقة ولاحظنا لافتات بصيغة الأمر على الحوائط والأبواب .. لا تدخن فى المصعد .. لا تفتح باب المصعد أثناء حركته .. إضغط على الزر هكذا .. لا تشد السيفون بعد الساعة .. وكثير غير ذلك من الأوامر والمحظورات ..

ولما كان مقر المجلة نظيفا ومرتبا ورائع التنسيق فإن هذه اللافتات لم تضرنا فى شىء .. وإن أضحكتنا .. ولكن أثرها كان واضحًا وبارز النتيجة ، فدور الصحف التى دخلناها قبل هذه الدار كانت مثالاً للفوضى وسوء النظام ، فالمطبوعات ملقاة على الأرض ، والمكاتب يعلوها الغبار ، والنوافذ والأبواب فى غاية القذارة .. فلماذا نضحك على النظام ..؟

وبدأ العمل من جانبنا فى إخراج المجلة وتحريرها .. وكان عندهم فى الأرشيف مجموعة طيبة من الصور .. فأخذنا نختار ما يلائم العروسة .. وبرز التجديد والابتكار واضحين فى طريقة عرض الصور وفى التحرير .

وكنا نشترى المجلات الأجنبية من القروش التى فى جيوبنا علاوة على المجلات التى عندهم وما أكثرها .. لنتخذ منها المثل .. ولنثبت وجودنا كمحررين مجددين نحمل الذوق الفطرى إلى التجويد والتطور ..

واخترنا الموضوعات السهلة وترجمنا الجيد السهل مما يهم المرأة فى زينتها وحياتها اليومية ..
وصدر العدد الأول .. وكان من الأعداد الجميلة .

وكان العدد الثانى معدا .. ولكنا إشترطنا أن نتفق على الأجر وأن نقبض ثمن العدد الأول قبل صدور العدد الثانى .. وحدثنا مندوب الإعلان بذلك ونحن فى مكاننا من المقهى .. ورأى الإصرار فى وجوهنا ، فغاب عنا يومين وفى اليوم الثالث دس فى يد أحدنا ظرفا مغلقا وشرب القهوة وخرج .. ولما بارح المقهى فتحنا الظرف وإذا بداخله ورقة واحدة بخمسين قرشا .. وبهتنا .. ولكنا ضحكنا بعد المفاجأة كثيرا.

فقد خدعنا الملعون بنذالة ، وأخذنا نفكر فى تقسيم المبلغ .. ورأينا أن نعطيه لمن يدخن منا نحن الأربعة .. ولما أدركوا أننى سأصبح المظلوم الوحيد .. عدلوا عن ذلك وتعشينا بالمبلغ من كباب الحسين وشربنا الشاى وفاض منه فيض تصدقنا به .. وافترقنا بعد العشاء .

مجلة العصور

مجلة العصور

كان البدوى يتردد يوميا فى وقت ما على مجلة الرسالة ، فقد كان يكتب القصة والمقال وكان الزوار من الأدباء والشعراء قلة ، ولأن معظم المقالات ترد إلى المجلة بالبريد . وهناك التقى بالأستاذ محمود محمد شاكر ، وتفتحت نفسه له وتعدد اللقاء بينهما .. يزوره فى بيته بمصر الجديدة مع القلة من أصدقائه الأدباء والشعراء ، يتحدثون عن الأدب ورجاله .

وفى نهاية عام 1938 فجأة ودون تمهيد وجد الأستاذ شاكر يحدثه عن إصدار مجلة أدبية .

ويقول .. " ولا أدرى متى نشأت فى رأسه هذه الفكرة واختمرت إلى حيز التنفيذ .

والأستاذ شاكر إذا فكر فى شىء يندفع إليه بقوة .. عرفنى أنه قابل الأستاذ إسماعيل مظهر واتفق معه على معاودة إصدار مجلة "العصور" وبقوة الصاروخ وانطلاقه وجدته يجمع المقالات ويعد العدة لإصدار المجلة .

وكنا نجتمع فى قهوة بورفؤاد .. وطلب منى قصة .. وكتابة القصة تستغرق منى وقتا طويلا قد يصل إلى شهر أو أقل أو أكثر .. حسب حالتى النفسية وتجاربى السابقة .. وهضم هذه التجارب والانفعال بها .. وخشيت ألا أستجيب لطلبه .. فأشعر بوخز ضمير شديد الوقع .

ووفقنى الله فى كتابة قصة .. وقرأها وأنا جالس معه فى القهوة .. وتناقشنا فى بعض ألفاظها وهو دقيق للغاية فى سلامة التراكيب واختيار الألفاظ المناسبة للمعانى .. وقد تعلمت منه اختيار اللفظ الذى يرسم الصورة الذهنية الدقيقة فى رأس القارئ .. ويرسمها بوضوح دون غموض أو لبس .

وفى الجلسات التالية .. جاء معه المرحوم سعيد العريان وكان الأستاذ شاكر قد اتفق على طبع المجلة فى مطبعة مجلة الإسلام وصاحبها أمين عبد الرحمن .. فانتقلنا إلى المطبعة بشارع محمد على ..

وكنت أشعر بسعادة غامرة .. وأنا أشاهد دوران المطبعة عن قرب .. وخروج الملازم مطبوعة .. والأستاذ شاكر مستبشر ضاحك .. وسعيد العريان يبتسم فى وداعة واستبشار .. والسعادة بادية فى الجو كله على وجه الطابع والناشر وصاحب المجلة الجديدة .

وكنا نحن الثلاثة نكتب فى مجلة الرسالة .. ولم نشعر قط بوخز الضمير فقد كان الجو الأدبى يتسع لعشرات المجلات الأدبية .

ولكنا علمنا أن أستاذنا الزيات تأثر .. وتضايق وخشى من المنافسة .. لأن العصور أخذت الكثير من كتاب الرسالة .
وصدر العدد الأول من مجلة العصور فى عهدها الجديد ورئيس تحريرها الأستاذ شاكر .. صدر فى طباعة جميلة وإخراج أجمل ومقالات قيمة .. ونفد المطبوع جميعه وزادت فرحة الأستاذ شاكر فلم يكن يتوقع مثل هذا الانتصار .

وأخذ يعد العدة بكل طاقته للعدد الثانى .. وكان المرحوم سعيد العريان أكثرنا فرحا .. وكان هو الذى يراجع بروفات الطبع .. وقرأ قصتى وأبدى رأيه فيها ..

علمنا أن الزيات تضايق من صدور مجلة "العصور" ولم نكن نفكر فى هذا قط ولا نتوقعه لأن الجمهور كان يقبل على قراءة المجلات الأدبية بشكل مثير .

ولم يكن الأستاذ شاكر من طبعه التراجع فأقبل على إصدار العدد الثانى بالحماس الذى صدر به العدد الأول ، وفى نفس المطبعة ونفد العدد الثانى كما نفد العدد الأول .

ولسبب لا أعرفه أنا ولا المرحوم سعيد العريان لم يصدر العدد الثالث من مجلة العصور .. وكانت صدمة تلقيناها بالصبر والتأمل ككل الصدمات فى حياتنا .

مجلة كليوباترا


مجلة كليوباترا


كان محمود البدوى ومجموعة من الأصدقاء بالحسين وبعد العشاء إفترق كل منهم إلى حاله .. ورأى أن يذهب إلى بيته ماشيا يستمتع بقاهرة المعز الجميلة فى هدأة الليل .. ويقول "كنت أسكن فى شارع قدرى بالسيدة .. فرأيت أن أمشى من الغورية إلى المغربلين ثم اخترق شارع محمد على إلى الحلمية الجديدة ومنها إلى شارع قدرى .

وكان رأسى يشتعل بقصة رأيت أن أكمل خطوطها فى رأسى وأنا سائر فى الليل قبل تسطيرها على الورق .. ويسهل على ذهنى ذلك وأنا أسير وحدى .. وفى الصباح بدأت فى كتابة القصة ، وكان الجو حارًا بالغ الحد فى حرارته .. ومع ذلك واصلت الكتابة لأن القصة كانت تجربة قاسية فى عربة من عربات الموتى فى الليل والظلام والوحشة والكآبة .

وكانت الكآبة تلفنى وأنا أكتب .. فحاولت التخلص منها بالكتابة ولهذا واصلت العمل حتى الساعة الثالثة بعد الظهر ...
وسمعت وأنا أكتب نقرا على الباب .. فتحركت إليه .. وفتحته ..

ووجدت عاشور عليش على الباب .. وكانت هذه أول زيارة له .. واللقاء الثانى بيننا .. ودخلنا إلى المكتب .. ووجدنى أكتب ..
فسألنى :
ــ قصة جديدة ..؟
ــ أجل !
ــ وأنا جاى عاوز قصة .

وفهمت من عاشور أن جريدة يومية كبرى .. تريد أن تخرج مجلة إسبوعية على غرار مجلة آخر ساعة .. وعهدت إليه مع صحفى آخر بجمع مواد هذه المجلة الجديدة وإخراجها ..
وسألته :
وما اسم هذه المجلة الجديدة ..؟
ــ كليوباترا
ــ ومتى ستصدر ..؟
ــ فى أول الشهر ..
ــ هكذا بسرعة .... انتهى الأمر إلى هذا ...

وأنا لا أحب أن تقلد مجلة أخرى .. والمجلات التى خرجت لتقلد من قبلها .. لم تعش طويلا وماتت .

وأعطيته بعد يومين القصة التى كنت أكتبها .. وصدرت المجلة ونشرت القصة برسم جميل يعبر عنها .. ولكنى شعرت بغصة فى حلقى وأنا أقرأ الجزء الأخير منها .. فقد حدث خلط فى الجمع والتوضيب .. تقدمت فقرات من القصة على فقرات ..

وأصبحت القصة فى نظرى غير مفهومة .. ولكن هذه الحساسية الشديدة نحو القصة لم يلاحظها سواى لأنى المؤلف .. أما القراء وحتى عاشور .. الذى اعتاد على مثل هذا الخلط .. لم يلاحظ شيئا ذا بال غير من صلب القصة .. أما أنا فقد بقيت مرتاعًا إلى أن نشرت القصة على وجهها الصحيح فى كتاب " العربة الأخيرة " .

وكنت بالإسكندرية يوم صدر العدد الأول من مجلة كليوباترا الذى نشرت فيه القصة ، وقابلت هناك مصادفة فى محطة الرمل المرحومين هلال وغريب .. ولم يلاحظا سرورى بالقصة .

وقال غريب لهلال :
ــ محمود هكذا أبدا .. لا يدرك الجيد الذى يكتبه قط وقد يعجب بأقل القصص قدرا .. ولكن الجيد المميز لا يدركه أبدا .. ويظل فى وسواسه ..

وكان حقا ما يقول .. فما أعجبت بشىء كتبته قط .. وقد يأتى الإعجاب عرضا لفترة قصيرة ثم يذهب لأن القصة كتبت فى جو كنت أحبه .. أو أن أشخاص القصة لهم أثر فى نفسى .. وتريحنى القصة بعد كتابتها ونشرها راحة نفسية مطلقة ، ثم ما يلبث أن يعاودنى القلق مما أحس فيها من قصور ونقص لم أدركه ساعة الكتابة وقبل النشر وأظل فى هذه الدوامة المعذبة أدور .. وأدور " .
============