
محمود البدوى
و
القصة القصيرة
على عبد اللطيف
المحامى
الناشر
مكتبة مصــر
3 شارع كامل صدقى ــ الفجالة
ت : 5908920


سيظل الكتاب موجودا وخالدا ما بقيت الحضارة .. ولا يمكن أن تدمر الحضارة أعظم شىء فيها .. لا يمكن أن تطفىء نورها .. وأعظم الممثلين فى العالم لم يستطع حتى الآن .. أن يصور شخصية هملت كما صوره شكسبير .. ولا رازكولنيكوف كما صوره ديستويفسكى .. ولا نانا كما صورها زولا .. ولا مدام بوفارى كما فعل فلوبير ـ " محمود البدوى " من مقدمة كتاب العذراء والليل ط 1956
المقابلة مع العالم النفسى الشهير سيجموند فرويد بالنمسا عام 1934
تسبب كثرة تنقل محمود البدوى من مسكن إلى آخر فى ضياع الكثير من الأوراق والمستندات بعد قيامه برحلته عام 1934 . وسأكتفى بنقل بعض ما قيل بالصحف والمجلات عن مقابلته للعالم النفسى الشهير سيجموند فرويد .
نشر بمجلة الهدف عدد مايو 1960 مقالة لأبو خالد عن كتاب " غرفة على السطح " وجاء فى نهاية المقال .. بقى أن تعرف أن محمود البدوى هو الكاتب العربى الوحيد الذى التقى بالعالم النفسى الشهير "سيجموند فرويد" فى النمسا عام 1936 والتصق به فترة غير قصيرة ، وتعدد بينهما اللقاء والمكاتبات ــ ولعل هذا يلقى ضوءا على اهتمام البدوى والدوافع والحوافز الجنسية عند أبطال قصصه ، لأنه يؤمن إيمانا راسخا بمذهب " فرويد " فى التحليل النفسى ، ويرجع انفعالات البشر دائما إلى أصلها العضوى ، والبدوى حريص على أن يطبق مبادئ فرويد التحليلية على أشخاص قصصه وتصرفاتهم ، وينهج فى ذلك نهجا علميا دقيقا بقصد الدراسة والتنوير لا الإثارة والتشويق ..
* * *
نشرت مجلة الأدب فى عدد يوليو 1961 مقالة للأستاذ ماهر شفيق فريد وهى عن نقد مجموعة غرفة على السطح ، وفى بداية المقال قال :
"وجال فى أوربا حيث التقى بعميد مدرسة التحليل النفسى سيجموند فرويد وتأثر به فى إلقاء الأضواء العلمية على السلوك العاطفى لأبطال قصصه ، وجال فى ربوع آسيا فكان لذلك أثر واضح فى كتاباته ، وعندما قفل راجعا إلى مصر كانت دوامة الحرب العالمية الثانية ( 1939 ــ 1945) تعصف بالملايين وتقوض القيم الإنسانية فى النفوس ، ومن هذه الأجواء استوحى مجموعته الأخيرة " غرفة على السطح " .
* * *
وفى مقال بقلم فوزى سليمان بصحيفة المساء 22 نوفمبر 1962 تحت عنوان " كاتب الجنس الذى يؤمن بالخير فى الإنسان " قال :
" هذا الكاتب الإنسان الذى يؤمن بالخير فى الإنسان وبالحياة ، عندما ذهب إلى أوربا فى الثلاثينيات من هذا القرن ــ تعرف على سيجموند فرويد من أعماله وتتلمذ عليه وتعرف على فلسفته عن قرب ، وأدرك العناصر الإنسانية فى هذه الفلسفة ، ومن خلال طاقاته الأدبية " .
* * *
وكتب عاشور عليش مقالة بصحيفة المساء 30 مايو 1963 تحت عنوان " مع كاتب القصة الذى تحققت أمنيته هذا الأسبوع " .. قال :
"هذه الوحدة التى استشعرها محمود فى القاهرة فى أول عهده بالشباب ، هى التى دفعته إلى الائتناس بالناس ، وصداقتهم ، مهما اختلفت مشاربهم وألوانهم ، ويلتمس لهم الأعذار فى ضعفهم وتصرفاتهم .. وهى التى أغرته بدراستهم ودراسة مشاكلهم ، وفهمهم نفسيا واجتماعيا . هذه الدراسة النفسية والولوع بكل ما يكشف النفس الإنسانية ، هو الذى دفع بمحمود البدوى إلى لقاء العالم النفسى الشهير دكتور فرويد فى فيينا بالنمسا عام 1934 ويكون بذلك محمود البدوى أول عربى يجتمع بالعالم النفسى الشهير ويناقشه فى مؤلفاته ونظرياته . ومن هنا يتضح أن رحلات البدوى إلى الخارج لم تكن للسياحة أو الزيارة فقط وإنما للمعرفة والدراسة ، ولذا يلح محمود البدوى على كل أديب وخاصة على كتاب القصة ، أن يسافروا إلى الخارج " .
* * *
وكتب الأستاذ شكرى القاضى بصحيفة الجمهورية 24 فبراير 1986 تحت عنوان "فارس القصة القصيرة يودع الحياة عبر مظاهرة صحفية :
" تفرد فى المزج بين الرومانسية والواقعية فى قصصه التى تأثر فى تحليل شخصياتها بالعالم النفسى الشهير "سيجموند فرويد " خاصة بعد أن التقى به أثناء رحلاته فى أوربا " .
===============
قهوة إمبريال بالإسكندرية
كان محمود البدوى فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين يحب الإسكندرية كثيرا لجمالها ونظافتها وقلة سكانها ، وفتن بها كثيرا ، ويعشق النزول فى مياهها ، فقد كان يحب السباحة والغوص تحت الماء منذ كان طفلا صغيرا فى القرية .
ويقول .. " كان الأستاذ غراب يتردد كثيرا على الإسكندرية لقربها من دمنهور والمسافة قصيرة بكل سبل المواصلات السهلة .. فكن يحضر فى الضحى ويعود إلى دمنهور آخر الليل .
وذات ليلة التقيت به مصادفة فى محطة الرمل بالإسكندرية وكان معه الأستاذ صلاح ذهنى .. وكان الاثنان ينتظران أديبا من الإسكندرية فى مقهى إمبريال ، وقبل مجىء هذا الأديب عرفانى بأنه يتوق إلى معرفة المستشرقين ويعتز بصداقتهم كالأستاذ تيمور ليخرج أدبه من الدائرة المحلية إلى ما هو أوسع آفاقا وأرحب .
وقال أمين ضاحكا :
وستلقاه أنت الليلة على أنك مستشرق .. لأنه ما رآك من قبل ولا يعرفك.. وشعرك الأبيض الطويل سيجعله لا يشك قط .. ولا تعترض فنحن نريد أن نقضى ليلة ضاحكة .. وعلى فكرة إنه يكتب القصة أحسن منك .. وسترى..
وكان شعرى طويلا منفوشا .. وبدلتى من قطعتين وكل قطعة بلون .. ومن طراز إنجليزى خالص .. ولا كواء ، ولا تنسيق ولا منديل يطل من الجيب . ولا أناقة فى المظهر جميعه .. وبيدى حقيبة مليئة بالمذكرات والأقلام .. وسأتكلم لمدة ساعة أو ساعتين بالعربية الفصحى .
وكنا قد ضحكنا كثيرا قبل المشهد ، فلما تقابلنا مع الأستاذ "سعيد" كان الموقف كله جادًا ، ولا يمكن لمخلوق أن يكتشف فيه مظهر التمثيل .
رحب بنا الأستاذ "سعيد" وكان الترحيب بى مضاعفا ، ولاحظت أنه هادئ ، وديع ، وكريم الخلق إلى حد بعيد ، فكدت أندم ، وأكشف أوراقى لولا نظرة صارمة من صلاح ذهنى أرجعتنى إلى ما اتفقنا عليه .
وأخذت أحادثه ، وأثنى على قصصه ، وشكر الأستاذ تيمور الذى كان أول من دلنى عليه بأن بعث إلى بمجموعته القصصية .. وكم عرفنى تيمور بأدباء وقصاصين ، وأرسل إلىَّ كتبهم بالبريد دون أن يعرضوا هم .. وبذلك استطعت أن أكون فكرة شاملة عن الأدب المصرى .
وابتهج الأستاذ "سعيد" عندما سمع هذا وطار من الفرح .. وعشانا فى نفس المكان .
ولكن أمين قال له بالعامية التى لا أعرفها .
ــ الأكلة دى ما تنفعش .. ولازم تعزمه فى بيتك .. لأنه عاوز يشوف بيت مصرى .. واحنا مالناش بيوت هنا فى الإسكندرية ..
فرد سريعا :
ــ طيب فى البيت يا أخى .. بكره الغدا فى البيت .
وترجموا لى الحديث بالعربية الفصحى .. فاعتذرت وقلت :
ــ إن ميعادى مع تيمور بك غدا فى القاهرة .. وقد عرفته فى رسالتى بيوم وساعة الوصول ..
فقال غراب سريعا :
ــ سنرسل له برقية ونعرفه بأنك ستصل إلى القاهرة بعد غد فى نفس الميعاد .
واسترحنا إلى هذا المخرج .
وفى اليوم التالى كنا فى بيته .. وكان بيته من الفخامة إلى درجة أذهلتنى وجعلتنى أعجب وأتساءل كيف يخرج من هذا العز أديب ..؟ وما هى المشاكل التى يمكن أن تحرك وجدانه ..؟
وكان يتحدث بالفرنسية مع أهل بيته .. وقد شعرت بالخجل لأنه اندفع فى حماس إلى وليمة فاخرة ..
وبعد أن فرغنا من الطعام .. وضعت أمامنا صحون ملونة صغيرة ممتلئة بالماء وفى كل صحن ورده .. فتعجل أمين ووضع يده فى الصحن حتى لا نتصور أنه خشاف ونرفعه إلى فمنا .. وكان بارعا وسريع الخاطر فى هذه الحركة .
وفى اليوم الذى حددته لسفرى إلى القاهرة لمقابلة الأستاذ تيمور ، جاء الأستاذ سعيد يودعنى فى محطة "مصر" ، وكان يرافقه غراب وصلاح .
وسألنى " سعيد " بأدب قبل تحرك القطار :
ــ هل ستقابل جميع الأدباء فى القاهرة ..
ــ بالطبع .. ولهذا جئت من بلادى ..
ــ سلامى إذن إلى أستاذنا .. الزيات وأرجو أن تحرص على مقابلة .. توفيق الحكيم .. وإبراهيم المصرى .. وعبد الرحمن الشرقاوى .. وثروت أباظه .. ويحيى حقى .. ونجيب محفوظ .. وعبد الحليم عبد الله .. ويوسف جوهر .. وسعد مكاوى .. ومحمود البدوى إذا وجدته ..
فقال صلاح ذهنى وهو ينفجر من الضحك :
ــ محمود البدوى ــ ما هو واقف قدامك فى القطر يا مغفل .. وضحكنا .. وضحكنا .. وأصبح هذا الأديب الإسكندرى من أعز أصدقائى ..
================
قهوة بور فؤاد
حينما كان البدوى ينهى عمله فى المصلحة الساعة الثانية بعد الظهر ، يذهب إلى البيت . وفى المساء يذهب إلى مقهى بورفؤاد بشارع فؤاد يجتمع مع صحبة طيبة من الأدباء الشبان المتفتحين للحياة والأدب .. يقلبون فى المجلات والكتب التى كانت تصدر فى ذلك الوقت .
ويقول : " وكان يحيى حقى .. يجىء فى الإجازات إلى هذه القهوة ، وقد رأيته لأول مرة فألفيته وديعا رضيا قليل الكلام .
وفى القهوة انضم إلينا طبيب الأسنان الدكتور رمزى مفتاح والمرحوم غريب والشاعر أحمد فتحى مرسى .. ورفيقه فى زمالة الحقوق والشعر الشاعر إبراهيم طلعت .. كلما جاء من الإسكندرية لعمل فى القاهرة .
وكان الدكتور رمزى يحضر بعد انتهاء عمله فى العيادة .. وحديثنا يدور عن الكتب الجديدة .. وكان الكثير منها للعقاد والمازنى .. وكان الدكتور رمزى .. وغريب لا يحبان العقاد كشاعر وينتقصان منه .. وأنا وهلال وفتحى مرسى وطلعت .. ندافع عنه بحرارة ككاتب وشاعر من أفذاذنا ومفاخرنا .. وقال لى هلال .. » إن غريب يكره العقاد .. لأنه اشتغل فى جريدة فيها العقاد .. وكان العقاد السبب فى نقص أجره الشهرى .. فحملها له وظل يحملها » .
و" كان غريب الذى درس فى الأزهر .. متفقا فى المشارب والذوق الأدبى واختيار أروع القصص .. مع الدكتور رمزى الذى درس فى طب الأسنان بمصر .. وسافر كثيرا إلى لندن .. وليس فى هذا غرابة .. فالذوق السليم يأتى من الفطرة .. وبالسليقة ..
وكلما كان الإنسان عميق التفكير .. بعُد نظره وحسن اختياره ، ولهذا التوافق فى المشارب ، كان الاثنان لا يفترقان إلا نادرًا ، وكأنهما يلبسان ثوبا واحدًا .. وغريب مسلم .. ورمزى مسيحى .. ولكن الفنان الأصيل بطبعه .. لا يخطر على باله التعصب الدينى ولا يفكر فيه قط .. ولا يحسب حسابا لفارق الدين ..
أما المتعصب فساقط من المجموع .. ومحتقر من زمرة الأدباء وزمرة الشعراء والناس أجمعين " .
=================================